184: … كي لا يهاجر أبناؤكم أيضاً

الجمعة 12 كانون الثاني 2001
– 184 –
لامني أصدقاء وقراء على “أزرار” الأسبوع الماضي، أنني أعلنت رأي ابني على المطار عائداً إلى عمله وإقامته في الولايات المتحدة بقوله لي: “لا تنتظرني في لبنان”، على أثر مشاهداته ومعايناته خلال خمسة أيام من عطلته قضاها معي في لبنان. وتمحورت تعليقات الأصدقاء على أنني لم أذكر من مشاهدات ابني سوى سلبيات نجد الكثير مثلها في بلاد العالم المليئة هي الأخرى بالسلبيات. معهم حق أنني لم أبرز ما لاحظه ابني من إيجابيات رآها بعد غيابه 14 سنة عن لبنان، غير أن هذه، قياساً على النواقص والسلبيات، بديهية هناك لا يتحدّث بها أحد لأنها من وظيفة الدولة يومياً وإلاّ فلماذا هي دولة لها ساسة وقادة ومسؤولون؟ والأنكى أن معظم الذين لاموني كان اعتراضهم عاطفياً ورومانسياً وطوباوياً وتنظيرياً، لأنهم لم يعيشوا فترة في الخارج ليروا كيف يكون حزم الدولة ونظام الدولة وهيبة الدولة، وكيف يخضع المواطنون للدولة ويعترضون حين تقصر في واجباتها وحقوقهم إذ هم يؤدون تجاهها واجباتهم.
مشكلتنا أننا ساكنون في قعر البئر، ولا نرى من وساعة الفضاء إلاّ مقدار ما يبدو لنا من فتحة البئر، ونتشدّق بأننا محور العالم، متوهمين أن وساعتنا من فتحة البئر هي هي الوساعة. وأبسط البديهي أن نعلو أكثر بعد، حتّى فتحة البئر، فتنكشف لنا السماء واسعة رحيبة أكثر بكثير مما كنا نظنّها ونحن قابعون في قعر البئر.
إن لبنان ليس طبيعة ومناخاً وصحن تبولة وحرارة بشرية وترحاباً إنسانياً، بل هو دولة حازمة تحافظ على النظام وتفرض هيبتها كي يطمئن المواطنون إلى البقاء، فالتمتع بالطبيعة والمناخ وصحن التبولة والبحر والثلج والجبل.
أنا لم أقل إن ابني اختصر لابنان بزحمة السير وغياب إشارات السير وشرطة السير وأكوام الزبالة واغتصاب البيئة، وجميعها متروكة وسواها بلا معالجة دولة حازمة لم يظهر أقدامها على بادرة تطمئن المواطن إلى حزم الدولة وفرضها النظام ومراقبتها المخالفات ومعاقبتها التجاوزات وسهرها في تطبيق النظام الواحد على جميع المواطنين فلا يكون بينهم ابن ست مقابل ابن جارية، وابن مواطن عادي مقابل ابن زعيم أو نائب أو وزير أو سياسي.
النظام يحفظ الكرامة. والكرامة تجعل المواطن يشعر بمواطنيته. وليسمح لنا العظيم الإمام علي أن نستلهم قوله الرائع “الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن” لنقول إن “الكرامة في الغربة وطن وفقدانها في الوطن غربة”. فالكرامة لا يثبّتها إلاّ نظام صارم تفرضه دولة صارمة يقودها سياسيون أنقياء مخلصون نظيفو الكفّ والضمير.
تحية إلى رجل الضمير المتروبوليت الياس عودة على شجاعته في كشف أصحاب الأقنعة ونعتهم بما يستأهلون.
تحية إلى سيدة الضمير الأميرة اللبنانية الاستثنائية بهية الحريري على إعلانها الإشاحة عن العمل السياسي في الدورة المقبلة، وانصرافها إلى العمل الثقافي والاجتماعي والإنساني وهو أنقى وأبقى وأرقى من العمل السياسي.
السياسة فن عظيم، لكن معظم السياسيين فاسدون: مستسلمون (عن ضعف) إلى الواقع أو مستزلمون (عن تواطؤ) إلى السوى. وإنما بسبب هؤلاء هاجر ابني ولن يعود، وبسببهم لا تستغربوا أن يهاجر أولادكم ولن يعودوا، حتّى تقوم في وطنهم دولة حازمة تفرض نظاماً هو وحده الذي يحافظ على كيان الوطن.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*