الخميس 4 كانون الثاني 2001
– 183 –
يحصل أحياناً أن نشعر بحالة ما، مؤلمة أو محزنة أو مثيرة للغضب، لكننا نكتمها (أو نعتاد عليها) حتّى يصدف أن نلتقي من يقبل عليها من خارجها فيحسها أوجع، ويعبّر عنها بما يضاعفها فينا فتنفجر منا نقمة مضاعفة.
وهو هذا ما حصل لي الأسبوع الماضي بين الميلاد ورأس السنة خلال خمسة أيام (26 إلى 30 الماضي) قضاها ابني معي، آتياً من عمله في الولايات المتحدة حيث يعيش منذ 14 سنة.
ولم تنفع الاحتياطات التي قمت بها كي أهيئ له راحة عطلة هنيئة، لأنه اصطدم بما آثار لديه أسئلة (مثيرة للرفض والقرف والغضب من منظاره الأميركي، روتينية مألوفة من منظارنا اللبناني- وأخطرُ ما في الخطأ أن نألفه ونعتاد عليه فلا يعود يثير فينا الغضب).
فهو، مثلاً، لم يفهم كيف يجتاز السائقون عندنا الضوء الأحمر ولا يوقفهم شرطي يقف على بضعة أمتار؟ ولا كيف النواصي والمفارق والتقاطعات متروكة بدون إشارة سير كهربائية ولا شرطي مرور؟ ولا كيف تغتال زحمة السير وقت المواطنين- بل عمرهم مذبوحاً على الطرقات- فيما تحل المشكلة شبكة أنفاق وجسور؟ ولا كيف تتكوّم تلال النفايات حتى تصبح- ليلاً- ملعباً للجرذان والصراصير تسرح على الطرقات العامة وبين زواريب البيوت والناس نيام (تماماً كما بدأ المرض يتفشى في “طاعون” ألبير كامو)؟ ولا كيف تتحول منعطفات الجبال الجميلة الخضراء مكبات للزبالة والنفايات وأوكاراً للحشرات السامة والزحافات القاتلة؟ ولا كيف ينقطع التيار الكهربائي بهذه الكثرة ولا من يتحرك؟ ولا كيف يتحدث رجل دين إلى مذيعة تلفزيونية عن الوضع السياسي في حوار بزّ فيه رجال السياسة، فيما مهمته (كما قالها لي ابني بمنطقه الأميركي) “تسويق الديانة للناس لا السياسة”؟ ولا كيف يفرح بنصاعة الثلج على قمة صنين (حيث اصطحبته ذات ظهيرة)، ويفرح بالمطار الحديث في بيروت يضاهي مطارات أميركية كثيرة مرّ بها، ثم يرى تجاوزات من مواطنين تؤذي جمال الطبيعة ونظافة المطار وقوانين السير وقيادة السيارات والدراجات النارية، مما لا يتجاسرون على القيام به في الخارج لأن القانون حازم.
على المطار، وأنا أودّعه في اليوم الخامس، غمرني بحنان كثير، شدّني إلى صدره وهمس في أذني: “لا تنتظرني أعود قريباً إلى لبنان. حين يشتدّ بنا الشوق تأتي أنت إلى فلوريدا. يا أبي، أيها الشاعر الذي يحمل لبنان في عينيه ووجدانه ونبض قلبه وقلمه، ثق أن لبنان التراث العظيم الذي أنشأتني عليه في طفولتي، لبنان الطبيعة والحضارة والفكر وسعيد عقل، اللبنان الرحباني المثالي، باق من تعاليمك في بالي وقناعتي طوال عمري. لكن الوطن أيضاً كرامة إنسان لا يحميها من تجاوزات الآخرين إلاّ نظام صارم. والنظام لا يرتجله المواطن بل تفرضه الدولة الحازمة. والدولة هنا دخلت فولكلورياً في الألفية الثالثة، لكن إجراءاتها لم تدخل العصر، وما زالت متخلفة قروناً عن القرن الواحد والعشرين”.