176: فؤاد سليمان هنيئاً لنا

السبت 18 تشرين الثاني 2000
– 176 –
ذات يوم من صيف 1987، دخلتُ على توفيق يوسف عواد في بيته الصيفي (بحرصاف) فبادرني ببشاشة هنيئة سرعان ما استفسرته عنها فبادرني رضيّ: “… أخيراً، صدرت المجموعة”. وكنت أعلم أنه كان قبل أسابيع فرغ من تصحيح آخر مسودات مجموعته الكاملة لتصدر عن “مكتبة لبنان” في جزء ضخم واحد. وأردف الأديب الكبير،: “الآن حققت أمنية غالية على قلبي وقلمي: أن تصدر مؤلفاتي الكاملة بإشرافي وتصحيحي، فلا تصدر بعد موتي وفيها ما لا أريده من أخطاء أو ترتيب أو توضيب أو نصوص”.
والأمر نفسه عاد فبادرني به نزار قباني، حين اتصل بي ذات يوم من 1995 وفاجأني أنه في بيروت. وحين استفسرته أجابني أنه سينعزل أياماً طويلة في فندق السمرلند حتى يضع اللمسات الأخيرة على تصحيح مجموعة مؤلفاته الكاملة لتصدر عن “دار الآداب” في حلة يرضى عنها الشاعر. وهو أيضاً أردف لي: “لا تتصوّر غبطتي وأنا اشرف على مؤلفاتي الكاملة فتصدر برضاي، كما أريد، لا كما قد يصدرها بعد موتي من ربما يتاجرون بها وبي”.
هذا الأمر، وما فيه من رضى وانشراح وطمأنينة للمؤلّف، لم يتسنّ لكثيرين من الأدباء والشعراء، مع أنه عزيز عليهم لحدسهم أن صدور مؤلفاتهم كاملة بعج وفاتهم يظل عرضة لترتيبات وأخطاء مطبعية وتدابير ونصوص منشورة قد لا يرضى عنها المؤلف.
فؤاد سليمان غاب قبل أن يشهد صدور مؤلفاته كاملة، بل هو غاب ولم يشهد حتى كتاباً واحداً له بين دفتين. كأنه كان يستمهل النشر. كأنه لم يكن يحسب أن الموت سيخطفه قبل أن يبلغ ربيعه الأربعين (مات في التاسعة والثلاثين). كأنه كان يفكر أن تموز سيناضل طويلاً قبل أن يصرعه الخنزير البري.
وبعد الذي خضعت له كتُبُهُ الأربعة (“درب القمر”، “تموزيات”، “أغاني تموز”، القناديل الحمراء”) من طباعة وإعادة طباعة (منها الوسط ومنها الرديء)، ها هي “الشركة العالمية للكتاب” تنشر ما يقترب من المجموعة الكامل: تسعة أجزاء أنيقة الإخراج (الأربعة السابقة، و”يوميات ورسائل”، “يا أمتي إلى أين”، “كلمات لاذعة”، “في رحاب النقد”، و”فؤاد سليمان بأقلامهم”)، في طبعة حسنة النيّة (وإن هي كانت تحتاج إلى تأنٍّ أكثر في أمر التحرير والتدقيق والتهيئة لمرحلة ما قبل الطباعة)، كما دعت إلى مهرجان لائق في قصر الأونيسكو (مساء هذا الاثنين 20 الجاري).
وبعيداً عن الشكليات، تأتي هذه المجموعة من مؤلفات فؤاد سليمان تلبي حاجة ضرورية في مكتباتنا. فليتلقفها فوراً الأدباء والمثقفون والدارسون والجامعيون، وليشر فوراً إليها أولياء المدارس فليلقفْها تلامذتهم، وليوصوهم بقراءتها، وليتعرّف جيل كامل من أبناء لبنان إلى هذا الأديب الرائع الذي ظل ينزف حتى انكسر، فترك لنا إرثاً أدبياً صادقاً نابضاً حياً، من “تموز” في “النهار” إلى كل كلمة كتبها في صحف أخرى أو على منابر أخرى، أديباً غير عادي.
هنيئاً لنا، لا لفؤاد سليمان وحده، بصدور هذه المجموعة. إن فؤاد سليمان، في مكتباتنا، ضوء لنا كثير، في بحثنا عن الأدب الحي الذي يرسخ لنا هوية أصيلة من نبض لبنان.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*