الخميس 23 تشرين الثاني 2000
– 177 –
كنا نقرأ له، فيلفحنا قلمه القاسي الباتر القاطع الحاد كالسيف المسنون. وحين اقتربنا منه وعرفتاه، صرنا نجده لاهباً أكثر، باتراً أكثر، قاطعاً أكثر، حاداً أقوى، كالسيف الطالع من أتون النار. ومع ذلك، مع كل ذلك، يظلّ فيه ملمح أبوي يقرّبنا منه دائماً، يظلّلنا بتجربته دائماً، ويحببه إلينا دائماً كرمز ومثال.
قبل سنوات، وكنت في واشنطن أحاضر في جامعة جورج تاون (1990)، علمتُ أنه في واشنطن فهرعتُ أجلس إليه، في الفندق الذي ما جلسنا فيه بضع دقائق حتّى نهرني: “هلم معي. قيل لي إن في مكان قريب من هنا غاليري تبيع أيقونات”. فأيقنت أيضاً وأيضاً كم هذا الرجل مسكون بالثقافة على قدر ما هو مسكون بالتثقيف.
وقبل أشهر، غصّ وهو يسلم أمانة “النهار” إلى جبران الابن والحفيد (1999)، هو الذي تسلّمها تسعة وأربعين عاماً (1948-1999) من جبران المؤسس، فأدركنا أن وراء قسوته ملامح من حنان تطفو في ساعة الحقيقة.
وقبل أيام، في قصر الأونيسكو غصّ فغصصنا، وأجهش فأجهشنا، وكاد يبكي فأبكانا. كان على المنبر، مرة أخرى، في لحظة الحقيقة، فخانه الصوت حتى شرق مرات في العبارة الواحدة، وتذرّع بالماء فلم ينجده كوب الماء، وتذرّع بالسعال فلم ينقذه السعال، وتظاهر بالزكام فلم تنطل القصة على أحد. كان على المنبر، يومها، كتلة من حنان أبويّ علينا جميعاً، وأخويّ على المحتفى بذكراه (فؤاد سليمان)، و”رفاقيّ” على عبدالله قبرصي أمامه في القاعة.
كان يتحدّث عن “تلك الأيام”، أيام كان “تموز” يكتب في “النهار” بـ”عصا من قلم السنديان” تلك المقالات النارية التي من “أدب العاصفة”. كان رفيقاً في تذكار “تموز” ورقيقاً في تذكّر فؤاد سليمان، حتّى أن تلك الإجهاشات التي تقطعت بها كلمته، قالت الكثير من “رموز” حاول أن يوصلها “رسائل” إلى المعنيين بالأمر، شاهراً قناعته أن “أجمل من الإيمان هو تجديد خلق الإيمان كل يوم”، وهذا ما فعله هو في كلامه على فؤاد سليمان، وهو هذا ما لا ينفك يقوله في صباحات الاثنين التي بتنا نستهل بها أسبوعنا داخلين إلى قلمه الطمأنينة وصوته الوازع.
تلك الوقفة في قصر الأونيسكو، كشفته إنساناً حنوناً حنوناً، تلويه الذكرى، وتحشرجه صور الماضي (“حكاية مساء على شاطئ البحر، هل تذكر يا فؤاد؟ وأنت، يا رفيقي عبدالله، هل تذكر صخب تلك الليلة”؟)، ويعلن على الحضور (الغاصين أمامه بالدموع في قاعة الأونيسكو) رسالة “رفقاء تموز الدرب الطويل جيلاً بعد جيل” ويدعوهم إلى تثوير التاريخ انطلاقاً من كرباج تموز الذي كان لا يرحم، تموز الذي “كان يقتطع من قلبه صفائح يوزعها على الناس مقالات مقالات”.
هذا الذي كنا نظنه قاسياً لا يرحم، وجدناه يومها أرق من طراوة التنهيدة، يختبئ وراء غصة تخونه فتكشف عن قلب كبير يؤمن مع تموز بأن “بطولة القوة تغلبت على القدر بالمحبة، ولو عذبته الكتابة بالعصا”.
بعد اليوم، سنقرأ غسان تويني كاتباً في العاصفة بعصا السنديان، لكننا بتنا نعرف أنّ في صدره الثائر قلباً حنوناً بطراوة الزغاليل التي، حين تهرب من العاصفة، تلجأ إلى عبّ السنديان.