160: … وعادت بعلبك إلى بعلبك

السبت 12 آب 2000
-160-
في إحدى قصائد الحبيب إيليا أبو شديد، جاء وصفه: “مارد… عَ كتفو بيشقل بعلبك”.
وفي تلك القمرية الشاعرية، كان هذا الوصف ماثلاً بين الأعمدة والهياكل، ونحن في حضرة كبيرنا وديع الصافي يصدح في ليل بعلبك كأنه هو المارد الذي، على كتفه، تستريح هياكل بعلبك.
إلى هذا الحد؟ نعم، إلى هذا الحد. فهو حمل ثمانينه (ألله يباركه ويحميه) وجاء إلى الأدراج التي وقف عليها للمرة الأولى أربع ليال قبل أربعين عاماً (28، 29، 30 و31 آب 1959)، وعاد يقف عليها اليوم ثلاث ليال (أول من أمس، وأمس واليوم)، ولم يتغير في صدحته سوى نضج كثير مع المراس كسبه صوته المطيّب كنبيذ الأديار العتيقة.
الذين رافقوا “الليالي اللبنانية” في مهرجانات بعلبك، أو يعرفون عنها، يعلمون أن الهدف الأول من إنشاء تلك “الليالي” (عام 1957) كان إبراز الفولكلور اللبناني في كل جماله.
والذين شاهدوا “الليالي اللبنانية” أمس وأول من أمس (وسيشاهدونها هذا المساء) تناهى إليهم المناخ اللبناني في كامل البهاء المنشود. فهو ذا فهد العبدالله رسم بأجساد راقصيه، وبضبط مدهش لحركة المجاميع، لوحات من فولكلور جعل لها كوريغرافيا من محافظاتنا الخمس، لا تتكرر ولا تطول، بل عند كل حركة جديدة صورة جديدة، ولوحة تشكيلية جميلة بتلك الأجساد السائغة الطواعية، رقصاً وتمايلاً ودوراناً وتداخلاً وتخاصراً وتكاتفاً، حتى تحسد كل لوحة أختها على هيبة تاريخنا وجمال عاداتنا. وبذلك يسجل فهد العبدالله أنه مجيد في رسمه وتخطيطه وتنفيذه، وأنه محلّق في فلك تراثنا.
وهو ذا رفيق علي أحمد بخطواته الوثقى وعباراته الوثقى يربط لبنان بلبنان بنبرة تمتزج فيها الرجولة بالحنين.
وهو ذا برج فازليان يعيد لملمة الخيوط التي كان قد تركها على أدراج بعلبك قبل ربع قرن فيصوغها أبهى وأجمل.
وهي ذي سهام الصافي، البنفسجة الطموح، تقف في براءة التواضع حد كبيرنا وديع الصافي، تنسج معه حوارات (“نجلا وشاهين” من “موسم العز” الرحبانية- 1960) وأغنيات ثنائية أو فردية، تتظلل به وهو يرفرف على المسرح كله، ويفيض على ليل القلعة صدى وصوتاً وحضوراً قوياً، كأن صوته طالع من احد الأعمدة، كأن قدره أن يكون تراثنا الحي طوال نصف قرن في نبرات صوت (يا حماه الله) ما زال يعلّق نجمة على عنق الفلك فيتواصل في صوته الرائع شموخ القمم على رؤوس الجبال وتسقسق الماء في سرير الوادي.
“تراث وحنين”، عمل يليق ببعلبك التي انطلقت منها “الليالي اللبنانية” (قبل 43 عاماً)، وها هي بعلبك اليوم، مع هذا العمل، تعود إلى بعلبك وتعيد إلينا وجهنا اللبناني العريق، ملوّحاً بنبيذ الجمال والعافية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*