159: فيروز الصوت… فيروز الظاهرة

الثلثاء 10 آب 2000
-159-
ما حدث في بيت الدين طوال ثلاث ليالٍ (4 و5 و8 آب) لم يكن ليلة غناء خارقة، بل حالة نيرفانية. ولم يكن سماعاً إلى مطربة استثنائية، بل كان ظاهرة استثنائية.
فالعشرون ألفاً ممن حجّوا إلى قصر بيت الدين، بلهفة المشتاق والملهوف، كانوا في معظمهم شباباً وصبايا ليسوا من جيلنا نحن (نحن الذين نشأنا على تذوق الجمال ووعي لبنان من صوتها حاملاً لنا أجمل الشّعر وأعذب اللحن مما كان هو “السحر الآخر” في صوتها) بل من جيل شبابي مثقف يعرف روائع الأغاني العالمية ونجومها وأقطابها.
مع ذلك تشكّلت حالة خاصة في بيت الدين، وتأسست ظاهرة لافتة من الذين حملوا إيمانهم وجاؤوا.
الذين ساروا مشياً مسافات طويلة، أو استقوا الباصات بعض مسافة لازدحام المواقف والطرقات. الذين كانوا مع أول نقرة موسيقى من كل أغنية، ينفجرون تصفيقاً وحماساً وتعييشاً في عفوية رائعة.
الذين لم يهتموا أين وصل صوتها من طبقاته قياساً على ما كان يبلغه من قبل، ولا اكترثوا لمسافات تنفسها في الأداء، قصيرة كانت هذه المسافة أم ممتدة، قياساً على ما لم يشهدوه منها في وقفاتها قبل ربع قرن.
الذين كانوا يبتهجون بأغانيها الشابية الجديدة أو المستعادة، لكنهم أيضاً كانوا ينفجرون دموعاً وتأثراً حين تصدح لهم كما من قلب الضمير: “لا تخافي سالم غفيان مش بردان… نايم ع تلّه، بتضل تصلّي، وناطر زهر اللوز بنيسان… بقلبو الإيمان ومغطّى بعلم لبنان”، حتى زاغوا في هستيريا وطنية طقسية حين انطلقت تصلي لهم: “بتتلج الدني… بتشمس الدني… ويا لبنان بحبّك ت تخلص الدني”.
الذين، بعد الأغنية الأخيرة وانسحابها عن المسرح (ليلة 8 آب)، استعادوها فعادت تغني لهم “نحنا والقمر جيران” وتختم وتنسحب، فاستعادوها ثانية فعادت تغني لهم “نسّم علينا الهوى”، وتختم وتنسحب فاستعادوها ثالثة فعادت تعيد “يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي”، وانسحبت فظلوا يصرخون ويصفقون ويلوحون حتّى عادت إليهم مرة رابعة تنحني شكراناً وهي على حدود الدمع في تأثّر أربكها فاستعادت بيديها تلوح لهم ومع كل تلويحة من يدها صرخات جديدة وبراكين جديدة من نداءات كأنها تستغيب أو تستجير بها كي تظل أمامهم رمز رموزنا.
الذين، من جيلنا، عرفوا هذا الصوت الذي نشأوا عليه منذ نصف قرن، ما زال صوتهم الواحد الوحيد، والذين من الجيل التالي عرفوا أن النصف الأول من نصف القرن هذا رفد النصف الآخر بكنوز شعر ولحن كانت ضمان هذا الصوت طوال ربع القرن الأخير، وسوف تظل هي ضمانه الوحيد إلى الخلود في الذاكرة الجماعية.
الذين كانوا في بيت الدين، عرفوا أنها فنانتهم الوحيدة، الفنانة الرمز (كما “عطر الليل”)، الفنانة القائدة (مثل “ملكة بترا”)، الفنانة الوطن (مثل “غربة بنت مدلج”)، وعروفا أن لغيابها الموسمي عنهم نكهة انتظار الحج.
في بيت الدين، لم تستمع إلى صوت، بل إلى حالة، ولم نصغِ إلى مطربة بل إلى ظاهرة.
ظاهرة، حسبها أنها ما زالت رمزاً أول (وربما وحيداً) لجيل من الشباب هو أيضاً يعتز بأنه… جيل فيروز.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*