155: جمهورنا الموسيقي الذي نُربّي

الخميس 13 تموز 2000
– 155-
لم يعد جديداً كلامنا على أهمية إنشاء الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية، كمؤسسة ثقافية لبنانية راقية.
ولم يعد جديداً فرحنا بها، فتية أخذت تنافس ربيباتها العالميات وشبيهاتها ورفيقاتها ذوات التاريخ العريق.
لكن الجديد في كلامنا وفرحنا، أنها آخذة، عرضاً بعد عرض، بتعويد جمهورنا على الذهاب إلى صالة كبرى، والجلوس ساعتين، وربما أكثر (كما في العرض الأخير)، والاستماع بكل هيبة وقدسية وصمت وخشوع إلى روائع الموسيقى الكلاسيكية، أسوة بما نشهده من جمهور أوروبا وأميركا وباقي البلدان المتطورة في العالم. يعني أننا بدأنا منذ الآن، وبفضل الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية، نربّي جمهوراً راقياً يعتاد على الذائقة الموسيقية العالية.
صحيح أن الجمهور اليوم ما زال يدخل الصالة مجاناً (وهنا تجب التحية الكبرى إلى وزارة الثقافة التي تضع قصر الأونسكو مجاناً في تصرف الأعمال الثقافية الراقية، مما يتيح للفنانين- من أية دربة فنية- أن يقدموا أعمالهم بدون كلفة إنتاج باهظة ترهقهم)، لكنه، تدريجياً، حين يعتاد على الدخول المجاني إلى الصالة ويبدأ بتذوّق الموسيقى، تصبح هذه حاجة عنده حياتية ثقافية لا يعود يتردد، عند شعوره، بها، في دفع ثمن البطاقة والدخول إلى صالة تقدم كونشرتو موسيقى كلاسيكية راقية. تماماً كما اعتاد جمهورنا على الأعمال الفنية العالمية (الموسيقية أو الغنائية)، وأخذ اليوم يشتري تذاكر ويحضر الأعمال العالمية التي تشهدها بيروت، أو تماماً كما (في مطلع الستينات) هيأ الأخوان رحباني الجمهور اللبناني تدريجياً على حضور الأعمال الراقية الكبرى، فاعتاد الجمهور أن يقطع تذاكر كلّ صيف ويذهب حتّى بعلبك لحضور الأعمال المسرحية الغنائية.
دائماً، لا بدّ لأحد أن يبدأ. ووليد غلمية، بتأسيسه الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية، بدأ أيضاً بتأسيس تقليد لبناني راق وحضاري: دفع الناس إلى صالة قصر الأونسكو لحضور أمسية موسيقى كلاسيكية. وفي كل مرة أحضر أمسية هناك (ولم أفوّت منها إلاّ القليل لوجودي خارج لبنان)، يبهجني أن أرى صالة ممتثلة، بل مكتظة بالسامعين الذين، مرة بعد مرة، يصفقون أقل (في قلب المقطوعة الواحدة) ويصغون أكثر، ويطفئون أجهزة “سلاليرهم”.
لا بدّ لأحد أن يبدأ. وها وليد غلمية بدأ. ولا تنتهي هذه السنة إلاّ وعازفو الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية يبلغون 90 عازفاً (نصفهم لبنانيون، وهذه نسبة فريدة جداً في مطالع إنشاء الأوركسترات). وهو حالياً يضع اللمسات الأخيرة على فرقة أخرى: “الأوركسترا الوطنية اللبنانية لموسيقى الشرق- عربية”، لتقدم من ريبيرتوار موسيقيينا المحليين مقطوعات لبنانية وعربية. ومع إطلالة السنة 2002، يكون انتهى تأهيل “الأوركسترا الفيلهارمونية الوطنية اللبنانية” بنحو 110 إلى 120 عازفاً، حتماً ستكون نسبة اللبنانيين بينهم أكثر بكثير من 50 بالمئة.
والعارفون بالموسيقى والخبراء يقرون بأن التصويت الأوركسترالي لـ”الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبانية” ممتاز جداً، كتصويت أي أوركسترا عالمية عريقة، وأن المقطوعات التي تعزفها صعبة الأداء ومع ذلك تنساب في هناءة.
وليد غلمية تحية إليك، ففي إنجازك هذا، قوة للبنان العائد إلى لبنان، حضارياً راقياً على الخارطة الثقافية العالمية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*