154: إزميل شاعر على إيقاع الزيتون

الخميس 29 حزيران 2000
– 154 –
(“… إلى أن تصبح جدة عتيقة مثل كبرى شجرات الزيتون،
أطِل أيامها يا رب، وجدد ثم جدد أرضها…”)
(أنسي الحاج: “الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع”)

كان ذلك عام 1976 وكنت أزور راشنا البصابصة لأول مرة. يومها عدت بمنحوته من خشب الزيتون بإزميل يوسف الذي بادرني وهو يودعني: “انتبه: الزيتون ليس كباقي الأشجار. يجب أن تنتبه للمنحوتة وتعتني بها كأنها ما زالت شجرة. بين فترة وأخرى، امسحها بزيت الزيتون، تجدد شبابها، فالزيتون لا ينتعش إلاّ بالزيتون”.
عاودتني هذه العبارة بعد ربع قرن، وأنا أدخل معرض الزميل الشاعر الفنان جوزف أبي ضاهر “إيقاع الشجر”، ومعظمه منحوتات من خشب الزيتون. وإذا بأبي ضاهر، الرهيف بالقلم كما بالريشة كما بالإزميل، يطالعنا بمجموعة تتنافس بالنضارة والنعومة والقيافة والجمال، فتحار أيها هيفاء أكثر، وأيها تغوى على رفيقاتها بنهائيات اللمس.
عتيقة علاقة جوزف أبي ضاهر مع الشجر. معرضه الماضي (“مرايا الغابات” 1997) فتح الأفق. وهذا الجديد أدخل النبض إلى هذا الأفق. نبض الزيتون. نبض العروق. نبض الأغصان والجذوع والجذور. نبض الحضور والهوية.
وواضحة ظهرت لمسات أبي ضاهر على المنحوتة (بالدقة التي يزاول فيها التنقيط رسماً متفرداً). فهو بإزميله الشاعر دخل على قلب الخشب، على عرق الزيتون، فأبرزه كعرق الإنسان في اليد (ويا الله! كم اكتشفت معه التشابه بين عروق الزيتون وعروق يد الإنسان!). وهو انتقل بنا إلى الغابة. صار للغابة اسم ورائحة، وتجريد له وساعة الخيال في قراءة المنحوتة فلا تنتهي القراءة ولا تتعب المنحوتة، من ابتكار. لحظات في الغابة طويلة، تعطي قوة ولذة، فلا شعور معها بجوع وعطش. خشب الزيتون، ولو عتيق، يظل ينضح زيتاً مباركاً، لأن الزيتونة أساساً شجرة مباركة.
ويلفت في منحوتات أبي ضاهر تنوّع المناطق وتغايرية الخصائص والعروق. فإذا خشب الزيتون في الشوف، غيره في الجنوب، وغيره في الشمال، وغيره في غادير الفنان الشاعر. كأن لزيتون كل منطقة خصوصيته وهويته. وهو الذي يقول كم غني كتاب الطبيعة، وكم كثير. ففي الشجر إبداع أين منه كلّ إبداع في الكلام على الشجر.
ويبدو أن جوزف أبي ضاهر، المتواضع أصلاً امتلاء، تعلم التواضع والانحناء أكثر، من تثقفه في نحت الزيتون. كأنما دخل على جوانية الذات، فاكتشف كم الإنسان غني عندما يتواضع، فيرمي القشور من خارج، ومعها الغبار وعيون الناس، ويدخل على الذات ويهنأ.
ولم يكن جوزف أبي ضاهر أنانياً في الاكتشاف، فأشركنا معه فيه، ببساطة نهائيات منحوتاته، ناعمة هادئة، جميلة، نظيفة، ساكنة، أنيقة، اهنئة في أشكالها ورموزها المتواصلة الابتكار، كأنه ما أخذ بالإزميل إلاّ ليكون حنوناً أكثر، أي شاعراً أكثر، وإذا المنحوتة، حين يودِّعها إزميله الحنون، ترتفع صلاة رقيقة تشكر الله على أن شاعراً تناولها بإزميله، رفيقاً، يعرف كيف يعزف أنغام الجمال على هديل إيقاع الزيتون.
وما أهنأ الزيتون المبارك، يكتبه شاعر، أو ينحته شاعر.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*