الخميس 22 حزيران 2000
– 153-
(21 حزيران: ذكرى غياب عاصي الرحباني)
“كان ذلك عام 1939، وكنتُ انتقلت بعيادتي (طب عام، وطب نسائي) من الأشرفية إلى أنطلياس. أول مريض دخلها كان فتى يدعى عاصي (16 سنة) يصحبة أبيه حنا عاصي. كان يعاني من الملاريا التي تفشّت كثيراً في تلك الفترة. وحين شفي، عاد ثانية مع شقيه منصور. ثم توطّدت العلاقة معهما فأصبحت طبيب العائلة، أزورها صديقاً وأزورها طبيباً. وأخذ عاصي ومنصور يترددان على عيادتي في أنطلياس (ثم في بيروت) تقريباً كل يوم.
كان عاصي دائم القلق على صحّته، وخاصة على تلاعب ضغط الدم. كلّما سافر وعاد، يزورني فوراً. وقبل كلّ ذهاب له إلى بعلبك، يمر ليفحص ضغطه. في مهرجان الأرز أخذني معه منذ اليوم الأول كي أفحص ضغطه بين التمرين والتمرين، ثم بين الفصل والفصل في ليالي العرض. كان دائم الخوف من “مجهول” يغدر به فجأة، فيكون عمره قصيراً. كان مسرسباً، ويحدس بـ”شيء ما” سيحدث له. لذا كانت لديه انفعالات (أساء فهمها كثيرون) هي نفسها انفعالات العباقرة، في عدم توازن نفس ظهؤ في تصرات تدل على عبقريته الخارقة.
وحدث ما كان يخشاه، 27 أيلول 1972 انفجر دماغه بسبب الإجهاد الفكري ووضعه الجسدي. كنتُ أول الواصلين إلى مستشفى رزق. منصور منهار، وفيروز (كانت هي الأخرى في المستشفى قبلذاك بأيام تعاني من إجهاد) بادرتني: “المهم أن يبقى عاصي حياً”. دخلتُ على عاصي. كان غائباً عن الوعي. استدعوا اختصاصيين من بيروت، بينهم عبدالرحمن اللبان طبيب الأعصاب الشهير. لم يتجاسر أحد على الإقدام خوف المجازفة بحياة عاصي. البروفسور جدعون محاسب اقترح المجيء بأستاذه البروفسور لوغرو. جاء لوغرو بعدما تنقّل بثلاث طائرات. فور وصوله عند منتصف الليل طلب التحدّث إلى طبيب العائلة. اختلى بي وبفيروز ومنصور. استفسر عن كيفية حصول الحادث: “كان يكتب، شَعَر بصداع قوي تلاه دوار، ثم تلعثم، ثم دخل في ضياع”. قرأ لوغرو الصور الشعاعية. أمر بالعملية الجراحية في الثامنة صباحاً. البروفسور محاسب وأنا حضرنا العملية. لم يستعمل لوغو، لبراعته المذهلة، سوى ثلاث قطع من الشاش ليزيل الدم التجمد على الدماغ. أول تعليق له: “هذا دماغ غير عادي. أكبر من الحجم الطبيعي”. بقيت في المستشفى 58 يوماً متتالياً. وكنتُ أعطي النشرة الطبية يومياً. وبقي على سرسابه. بقي يخاف من “مجهول” يجعل عمره قصيراً، حتّى خطفه المجهول. وما زال ماثلاً في ذاكرتي إلى اليوم كأنه سيمر مع منصور كل يوم. وفيروز ما زالت الوفية، وتتصل بي مطمئنة عليّ حتّى اليوم (…)”.
بذا، أول أمس، حدثني الطبيب الذي عالجه (بالإذن من أستاذي في الأدب الحي سعيد تقي الدين على استعارتي عنوانه “حدّثني الكاهن الذي عرّفه”).
وحين كنتُ (على باب بيته في برمانا) أصافحه مودعاً، سمعت إجهاش ذكريات لا تزال بكل وفاء تتردد في قلب هذا الكبير الذي يحتفل قريباً بعيد ميلاده الثامن والثمانين (من مواليد 1912)، وهو- أطال الله عمره وأمده بالصحة الدائمة- لا يزال في شباب الذكريات: الدكتور فريد أبو جودة.