الجمعة 19 أيار 2000
– 148 –
لا نفهم كيف يطلع المذيع مساءً، في معظم محطاتنا التلفزيونية، لينقل لنا خبراً عن رئيس الجمهورية، أو عن رئيس مجلس النواب، أو عن رئيس مجلس الوزراء، فتلتقط الكاميرا مشاهد صامتة لكل منهم وهو يستقبل زائراً لديه، ثم تروح بعد ذلك تمرّ على حيطان القصر الجمهوري أو باحته أو حيطان السرايا الكبيرة أو نافورتها، أو مبنى المجلس النيابي أو مقاعده، فيما المذيع ينقل بصوته هو كلاماً عن هذا المسؤول أو ذاك، حتّى ليطول كلام المذيع فتطول اللقطات على الحيطان أو النافورة ثم تتكرر لقصر الفيلم وطول الكلام على لسان المسؤول.
نفهم أن يحصل هذا في الإذاعة، لكننا لا نفهم أن يحصل في التلفزيون حيث الكلام للكاميرا صوتاً وصورة.
ولا نفهم أن يطل المذيع أحياناً من مقعده في نشرة الأخبار ليعطي موجزاً عن كلام المسؤول، ثم يترك الكاميرا للمندوب الذي زار المسؤول فيقول بعض ما يقوله المسؤول، ثم يترك لحضرة المسؤول يكرر ما كان المذيع (بكامل أناقة أخطائه اللغوية) قال عنه، وما كان المندوب (بكامل أرطال أخطائه اللغوية) قال عنه كذلك، فإذا بهذا الصنف من الكلام بالذات (ومعظمه ممل ومكرر وممجوح من جميع المواطنين) يتكرر ثلاث مرات في بضع دقائق.
أقول بضع دقائق، فيما الحقيقة أننا، كمعظم بلدان العالم الثالث والثلاثين، بتنا نمضي نصف نشرات الأخبار على كلام المسؤولين وتصاريحهم واستقبالاتهم، بينما كبرى محطات التلفزيون الأميركية مثلاً لا تخصص لبيل كلينتون سوى لحظات سراع لاستقباله شخصية ذات علاقة بالسياسة الخارجية. ولم يحدث أن شاهدنا كلينتون مرة واحدة يستقبل وزير خارجيته أو مديراً عاماً في الدولة أو وفداً من رجال المال أو الأعمال الأميركيين، كما يحدث عندنا إذ نمضي ثلاثة أرباع وقت النشرة على مشاهد للمسؤولين، يلعبون بالسبحات العثمانية بين أصابعهم، ويستقبلون زوارهم وأزلامهم وجماعاتهم، و”يدلون” بعدها بالتصاريح.
كان ينقصنا هذا الهذر في نشرات الأخبار (التي يشاهدها ملايين الناس) كي يكتمل السخف التلفزيوني.
أفلا يكفينا أن معظم تلفزيوناتنا باتت تقتصر على برامج الفز والنط والألعاب والحزازير وهز البطن والفوتبول والباسكت بول والغنائي السخيفة، حتى باتت الشاشة عندنا مصدر إضاعة وقت المواطنين وهدر سهراتهم بساعات طويلة من التنبلة وشرب الأركيلة والسهر المجاني أمام شاشة لا تقدم لهم ذرة واحدة من الثقافة والمعرفة؟
طبعاً، لن نطالب التلفزيونات عندنا ببرامج ثقافية راقية أو ذات مستوى، فهذا مستحيل أمام خضوع مسؤوليها للمعلن الذي يطلب تلك البرامج، بالذات لتسويق بضاعته، لكننا نسأل: ألا يمكن، بين مئات الساعات الأسبوعية، تخصيص ساعات قليلة لتثقيف الناس ببرامج لا يأسفون معها على هدر ساعات من عمرهم؟
بين هذه الركاكة في تقديم نشرات الأخبار، وهذا الخلط في برامج السهرة (إلاّ قليلها النادر)، يغرق المواطنون المحليون (ومشاهدو الفضائيات كذلك، فهناك البكاء وصرير الأسنان) في ساعات مطاطة أمام الشاشة تهدر عمرهم، يمضونها بكل سخف، يتسلون بلعق دم العمر يسيل من مبرد الزمن، وهو دمعهم هم، ولكنهم لا يدركون.