131: متى نتعلَّم أن نقف بالصفّ؟

الخميس 13 كانون الثاني 2000
– 131 –
بقدر ما انشرحت حين اتصلت بي موظفة الهاتف تنبئني أن وقت دفع الفاتورة حان لهذا الفصل (وكانت “العادة القبيحة” قبلاً أن تقطع إدارة الهاتف الخط حتى إذا اكتشف المواطن ذلك هرع إلى دفع الفاتورة مزيداً عليها “جزء” نقدي)، عدت فوقعت في الخيبة حين ذهبت للدفع.
كان أمامي مواطنان على شباك الدفع. انتظرت دوري بعدهما فأعطيبت الموظف أرقامي، وبضغط سريع على مكابس الكومبيوتر، فيما بدأ يستخرج فواتيري وقيمتها، “هطلت” عليه من فوق كتفي وتحت أنفي ووراء ظهري أيد ممدودة صاح أصحابها معاً: “هذه أرقامنا. ما فواتيرها؟”.
وبلفتة مني إلى الوراء وجدت ثلاثة رجال أشاوس يتسابقون على مد أيديهم، دون احترام لمن يقف قبلهم على شباك الدفع، ولا للموظف الذي كان منهمكاً بإنهاء فواتيري. وبتهذيب جم، ابتسم هذا لهم قائلاً: “بالدور يا شباب”. فانبرى واحد عنتري الشوارب أبله الوجه: “أنا مستعجل. أوقفت سيارتي في عرض الطريق وعرقلت السير”. قالها بوقاحة، وبوقاحة مماثلة نفخ في فضاء الغرفة سيكارته، وقال الثاني وهو يحمل بين أصابعه الصفراء سيكارة: “شو بالصف؟ منذ متى هذه الوقانين؟” واسبَطَرّ الثالث وهو يطقطق بسبحته الطويلة قائلاً بلهجة غبية على بلهاء: “بيظهر عرفتني؟”. واحتار الموظف أين من هؤلاء العناتر الثلاثة يلبي أولاً حين ينكبه الحظ وينهي فواتيري.
قلت للموظف: “لم لا تتبعون طريقة الأرقام حتى إذا دخل المواطن أخذ رقماً وانتظر دوره؟”، فابتسم أسفاً على سذاجتي: “ما بيتغير شي يا استاذ”. ولعله على حق: فهذا ابن بنت عم النائب، وذاك أخوه صديق سائق الوزير، وذلك ابن المرحومة عمته زلمة الزعيم.
وأنا خارج من الدائرة تساءلت: هل يمكن هذا المواطن الأشوس أن يتصرف هكذا في باريس أو نيويورك أو أي بلد متمدن في العالم فيتجاوز دوره ويمد يده إلى الموظف؟ وهل يقوم به ذاك الشاب الأرعن من عنتريات في قيادة سيارته بيد واحدة، وفي تجاوزاته الحلزونية “الزيكزاكية” بين السيارات، يتجاسر أن يقوم به في بلد أجنبي؟ أم أن جحا لا يقدر إلاّ على خالته؟
كل هذا طبيعي، حين تكون الرقابة ميتة، والسلطة الرادعة غائبة، وحب الفوضى متفشياً في مواطنين لم يردعهم أحد (حتى الزعيم العبقري حاميهم) عن تجاوز النظام والقانون وأبسط قواعد التربية المدنية.
سئل مرة مسؤول إسرائيلي (لا أذكر من هو): “ألا يخيفكم أعداؤكم بأعدادهم التي هي أضعاف أضعاف ععدكم” فأجاب: “حين يبدأون يقفون بالصف، نبدأ نحسب لهم حساباً”.
وكان على حق.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*