السبت 23 تشرين الأول 1999
– 120 –
غادة السمان عادت إلى بيروت.
السنجابة الجميلة الغريبة التي تتخذ البومة شعاراً كي تبعد الناس إلى السةاد فيما هي البياض كله، والحب كله، والصداقة كلها، عادت إلى بيروت. تركت باريسها وعادت إلى بيروت.
وبفرح عادت، وبتوبة من لم تخطئ، وبندم من لم تقترف ما يستوجب الندم عادت، وأعلنت الحب للوطن الذي لم يترك نسيجها ولا شرايينها: “في حياتي حبيب اسمه لبنان واسمه الحركي بيروت” (حديثها إلى مي منسى- “نهار” الثلاثاء الماضي). وأعلنت جهاراً ما يؤمن به كثيرون ولا شجاعة لهم على إعلان “لبننة العالم العربي حين يتعلق الأمر بقضية الحرية” ورفضت “تعريب لبنان قبل أن تتحقق خطوة الحرية”، وصرحت أن “لبنان هو حلم الحرية العربية وعاصمتها الوحيدة شبه المتحققة”.
من زاويتها الموقتة في تلك العلية الباريسية (حيث سكنت أعواماً رمادية طوالاً)، إلى منآي الموقت على بحيرة الليمون في فلوريدا، كنا نتراسل باستمرار. كنا نتشاكى بعادنا عن لبنان. وكنا نتوق إلى اللقاء على بحر بيروت، لكن بيننا اثنين كانا يشغلاننا عن العودة بحجم التوق: وحيدها حازم ووحيدي هنري جونيور. وكلاهما اليوم ندهته أميركا إلى بوابة المستقبل.
وحين عدت قبل خمسة أعوام، أرسلت إلى بطاقة تهنئة بعيد ميلادي، ووردة صداقة على شجاعتي بقرار العودة. ولعلي من يومها أخذت أنتظرها تعود. انتظرتها ترجع إلى بحر بيروت، إلى المدينة التي أبعدتها عنها الكوابيس وها هي عادت إليها كما يعود الجدول إلى النبع.
غادة السمان عادت إلى بيروت، الخبر ليس عادياً لأن صاحبة الحدث ليست عادية.
التي قالت ذات يوم: “دخلت الكنيسة. كانوا يضعون نقوداً في صينية القش. لم يكن معي نقود. وضعت في الصينية اسم حبيبي”، ها هي اليوم عادت لتضيف إلى بيروت حباً جديداً، لتبوح عالياً أن “بيروت كابوس رائع” وأن بيروت “واحدة من المدن النادرة”.
وها هي بيروت، يا غادة، ترحب بك في فرح الإبنة الشاطرة، تعودين إلى الحضن الأول، إلى السقف الأول، سقف الحرية التي بحثت عنه في باريس، وطفت العالم كله، من أقصى القارات إلى أقصى القارات، بحثاً عن “لحظة حرية”، ولم تجدي مكاناً تتمددين فيه على طول مزاجيتك الجميلة إلاّ في بيروت، هذه التي كلما ابتعدنا عنها انزرعت في ضميرنا زنبقة من رجوع نبدأه فور نغادرها.
فيا غادة: أهلاً بك إلى بيتك الأجمل، حولته الكوابيس أحلام انتظار أنت عروسها الجذلى.
ولتتخاصر أقلامنا معاً. ولنبدأ، من جديد، حكاية حب لهذا الوطن لا الذي يشبه إلاّ الحب.