الخميس 28 تشرين الأول 1999
– 121 –
لم تمضِ أسابيع على عودتي النهائية إلى لبنان من المنأى المؤقت على بحيرة الليمون (فلوريدا)، حتى وقعت فجيعة أخي أمين أ. الريحاني (نيسان 1995) بفقدان زنبقته البكر سيرين، واحتفينا بذكراها (9 تموز) في الفريكة. تحت الصنوبرة التي زرعها الريحاني الكبير وترعرعت تحتها سيرين.
يومها (بعد غيابي ست سنوات عن لبنان)، سمعت للمرة الأولى صوتاً دخل حواسي بسرعة الدمع والبسمة، واخترق قلبي حتى نقزة الاكتشاف: صبيَّة راحت تلقي من شعر سيرين بإحساس عميق، ثم جعلت تدندن مقطوعات من سيرين حولتها أغنيات حيرى بين النشيج ودمع الانتظار.
كانت تلك، جاهدة وهبة. ومن يومها رحت أتابع هذه الموهبة اللبنانية التي كأنها ولدت جاهزة، من لعبها تَمثيلاً وغناءً في “صخرة طانيوس” (لجيرار أفيديسيان) و”شربل” ريمون جبارة، و”مهاجر بريسبان” (بتوقيع ميشال جبر)، وإخراجها فيلماً قصيراً (15 دقيقة) نال جائزة التفوق.
واستقصيت، فإذا هي خريجة الجامعة اللبنانية ثلاثاً: إجازة في علم النفس (كلية الآداب)، إجازة في الغناء الرشقي (9 سنوات كاملة من الكونسرفاتوار)، دبلوم دراسات عليا في التمثيل والإخراج (معهد الفنون).
إنها إذن فنانة ثقيفة، وتملك موهبة ثقيفة، مما جعل صوتها في الأداء ثقيفاً بامتياز، فأضافت إلى ما منحها الله من موهبة الصوت، صقلاً في الأداء والتعبير والإحساس ومخارج الحروف مما جعلها فنانة تحمل النعمتين: نعمة الموهبة، ونعمة صقلها.
قبل أيام، في قصر الأونيسكو (بدعوة من “مؤسسة الأمير مجيد إرسلان الاجتماعية)، أحيت أمسية شعرية/غنائية من شعر نزار قباني، فتألقت جاهدة إلقاءً وغناءً، في إدارة بارعة ورشيقة وجديدة من جهاد الأندري الذي يثبت مرة بعد مرة تمكنه من مسرحة الشعر في ما يجعله شعراً أكثر.
وأحببنا جاهدة أكثر: إلقاءَها الشعر بصوتها المطواع القوي الحضور، وغناءها بصوتها المتمكن الواثق القدير، وخرجنا من الأمسية فرحين بالموهبة المزدانة تألقاً على خشبتنا اللبنانية.
وها هي، مساء هذا الثلاثاء المقبل، تقف من جديد على خشبة قصر الأونيسكو، لتحيي سهرة طرب عال من سيد درويش وعبدالوهاب والقصبجي والسنباطي وزكريا أحمد وفيلمون وهبه…
ومن جديد، سنمتع ذوقنا وإرهافنا ووقتنا وسمعنا بباقة تراثية غابرة، أعادها نضرة إلى عصرنا صوت نضر يتبع الأصول ليعيدنا إلى أصالة كدنا نفتقدها في زمن أغنيات فقاقيع الصابون، حتى أعادها إلينا في أبهى نضارتها صوت جاهدة وهبه.