110: بهدلوا الشـِّعر

الخميس 5 آب 1999
– 110 –
من أزعج ما يطالع “المستمعين الأحباء” في طوفان الإعلانات الإذاعية التي يتخللها أحياناً بعض البرامج، أن يأتيهم صوت مذيع أو مذيعة، يتأوه ويفح ويغنج بأبيات زجلية موزونة مقفاة، في إلقاء شاعري حنون دافئ عاطفي رومنتيكي، ليكون الإعلان عن… حذاء أو شورباء.
كل هذه العجقة “الشِّعرية” والإلقاء والأداء من أجل… حذاء؟
ومن قال أن الشِّعر ممسحة للاستعمال على الطالع والنازل في الإعلان المسموع أو المقروء؟
والأزعج من ذلك أيضاً: إعلان طويل عريض عن حفلة كبرى يحييها نجم الطرب (…) أو نجمة الفن (…) بالاشتراك مع شلة من ألمع نجوم الطرب ولهلوبة المسارح الراقصة (…) وأطيب المشاوي على الفحم وأفخر اللحوم والدجاج مع مشروب مفتوح ويقدم البرنامج الشاعر (…).
نعم. هكذا، بكل بساطة ووقاحة ورعونة وطيش: يقدم البرنامج الشاعر (…).
كأنما الشِّعر غارسون المائدة، ولا بدّ منه كي تكتمل الوليمة والسهرة وغبطة الاحتفال، أو كأنما لا يحلو تقديم حفلات حشو البطن وهز البطن إلاّ إذا صعد واحد على المسرح وراح يجلد الساهرين بعشرات ردات الزجل المرتجلة أو المحضرة ذات الوزن والقافية، كي يطرب الناس ويصفقوا.
وهكذا، بين “الشِّعراء” الذين يقدمون حفلات المازة، وبين “الشِّعر” الذي يتم به تطريز إعلانات البضائع الاستهلاكية، ضاع الشِّعر “فرق عملة” بين رعونة من يقصدون، وجهل من لا يقصدون، حتى “تبهدل” ورخصت قيمته إلى مستوى تقديم حفلة أو كتابة إعلان.
الشِّعر، هذا المقدس الذي لا يليق به كل منبر، كيف يمكن تسخيره لتفكهة الحاضرين بعد الأكل أو لكتابة نص مسجع أو مقفى وإلقائه بطيرقة عاطفية بلهاء للإعلان عن حذاء؟
نفهم أن يكون الشِّعر ظاهرة صوتية تلتقط أذن السامع لجرسها ووقعها وانسيابها، إنما لا ليصار إلى تعهير هذه الظاهرة بهذا الشكل الاستهلاكي الرخيص، مسجعاً أو مقفى.
ونفهم أن يصعد واحد مسرحاً ويلفق كلاماً لتقديم جهبوز يغني أو واحدة ترقص، إنما لا ليقال عنه إنه “الشاعر”، ولا حتى الزجال (لأن الزجل فن راق كبير لا يجوز استرخاصه بهذال الشكل). وقد يكون هنا اسم “القوّال” مؤاتياً له، لأن مسرح القوالين قائم اصلاً على هذه “الردات” الطريفة المقفاة، و”القول” فن مستقل قائم بذاته لا علاقة له بالشعر كشعر. وهكذا يقال: “يقدم البرنامج السيد فلان أو القوال فلان”، ولا تخدش الآذان عنجئذٍ كلمة “شاعر” التي يعطيها الله نعمة للأصفياء،فيمنحها المعلن لمن يقدم حفلات الزعيق والفراريج وهز البطن في المطاعم والقهاوي.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*