الخميس 21 كانون الثاني 1999
– 82 –
بعد ظاهرة البدء على الوقت ووصول الجمهور على الوقت في الاحتفالات الثقافية (“أزرار” 81- الأسبوع الماضي) تبقى ظاهرة أساسية في إنجاح الاحتفال وجذب الجمهور إليه: النص المنبري.
لا يزال كثيرون من خطبائنا يخلطون بين نص يكتبونه لينشروه (أي نص للقراءة)، ونص يكتبونه ليقرأوه (أي نص للسماع المنبري). فالنص الذي يضعه الكاتب للمطالعة، يظل له فيه هامش للإطالة والاسترداد وذكر الحواشي والهوامش والاستشهادات والجمل الاعتراضية وتعداد المصادر والمراجع، وما إليها من تطويلات يتسع لها وقت القارئ ذي الخيار في إكمال النص دفعة واحدة أو وضعه جانباً للعودة إليه لاحقاً. بينما النص الذي يكتبه صاحبه لقراءته على المنبر، محكوم بوقت محدّد لا يحق له تجاوزه، لأن وقتاً لاحقاً يجب أن يُعطى لسواه على المنبر، ولأنه يتوجه إلى سمع جمهور سبق أن استمع لسواه على المنبر نفسه، ويتهيأ ليسمع سواه بعده.
وإذا أخذنا بالنظرية العلمية أن قدرة التركيز لدى المستمع، على خطيب واحد في موضوع واحد، لا تتجاوز ولا بحال أكثر من عشر دقائق إلى خمس عشرة (وفق الموضوع المتلو على المنبر)، نخلص إلى وجوب ألا يتجاوز نص الخطيب المنبري هذه الدقائق، حتّى يظلّ ممسكاً بانتباه جمهوره، وألا يكون يقرأ نصّه في واد، وجمهوره في واد آخر ينظر إليه ببرود أو يضجر أو ينعس أو يتحدّث.
إن لكتابة النص المنبري موهبة خاصّة لا تقل أهمية عن كتابة النص المنشور، موهبة تتجه إلى براعة الإيجاز لإيصال النص إلى أبعد تأثير في أقصر وقت. وهذه مقدرة لا يعطاها كلّ خطيب.
وللوقوف على المنبر شرطان أساسيان. الأول: قياس عدد الدقائق المفروض استغراقها، قياساً على عدد الخطباء المفروض تواليهم على المنبر نفسه، وكتابة النص المنبري على هذا الأساس. والشرط الآخر: اجتزاء (مونتاج) النص إلى فقرات تتلى على المنبر، والإبقاء على كامل النص لنشره لاحقاً، بمعنى إدراك أن القارئ غير المستمع، وأن كلّ منهما ظرفاً ووضعاً ووقتاً واعتبارات.
من هنا أن الخطيب الناجح هو من يعرف كيف يوجز، ليخترق إسماع جمهور وإفهامهم. وليس أدلّ على نجاح هذا الأمر من التشبه بالتلفزيون، الذي يقاس كلّ وقت فيه بالثواني (لا حتّى بالدقائق) لإيصال المضمون إلى جمهور متسلّح بـ”الريموت كونترول” يهدّد بها كلّ من يطيل ثرثرته.
ومتى عرفنا كيف نكتب نصوصنا المنبرية “تلفزيونياً”، نكون بدأنا نمسك بانتباه جمهورنا كاملاً، فلا يهدّدنا بـ”ريموت كونترول” إشاحته عن الإصغاء، حتّة ولو كان شاخصاً إلينا.