34: “آخر أيام سقراط” حيث الرمز فقط

الخميس 12 شباط 1998
– 34 –
الليلة في صالة كازينو لبنان “آخر إيام سقراط”، جديد منصور الرحباني.
الصالة التي شهدت “الليل والقنديل” (1963) و”بترا” (1978) لعاصي ومنصور، وشهدت “صيف 840” لمنصور مهداة “إلى عاصي” (1988)، تشهد الليلية العمل الذي يعتبره منصور أضخم أعماله: نصاً وموسيقى.
وإذ ثبت أن من العبث إسقاط الأعمال الرحبانية على الوضع الراهن عند تقديمها (“يعيش يعيش”، “صح النوم”، “الشخص”، “المحطة”، “ناطور المفاتيح”، …)، أو الأعمال التاريخية (“أيام فخر الدين”، “بترا”، “زنوبيا”، “صيف 840″،…)، فمن الساذج جداً أن يحاول جمهور “آخر أيام سقراط” البحث في هذه الشخصية أو تلك من المسرحية عن رموز لشخصيات سياسية حالية على المسرح السياسي اللبناني، برغم إشارات واضحة في نص “سقراط” (حكومة الثلاثين، تعيين كريتياس الاثيني حاكماً على أثينا مدعوماً من إسبرطة، حلّ كريتياس الحزب الديمقراطي ونفيه أركانه، سقوط الحكيم سقراط شهيداً للحقيقة في بلده،…) وما قد يوحي بأن منصور الرحباني يقصد هذا أو ذاك من رجال هم اليوم في الحكم. ذلك أن هؤلاء غداً في البيت أو في المنفى أو السجن أو في المنفى أو في الغياب، ويستمر العمل الإبداعي واقفاً في الزمان.
وهي هذه واحدة من البراعات الرحبانية، أن يتابع المشاهد ما يحك له جرحه أو غضبه أو معاناته في وطنه، حتَّى ليظن أن الهدف من المسرحية هو تصوير الواقع الراهن، بينما النص الرحباني ينطلق من التاريخ حيناً أو الرمز أو الأسطورة أو الحكاية حيناً آخر، ليسكب عملاً إبداعياً يتجاوز الواقع الزائل المتحول إلى الألق الفني أو الثوابت الفنية التي ليست كزبد البحر تنتهي عند وصول الموجة إلى الشط، وتالياً لا ينتهي العمل في الناس عند سقوط الرموز التي يظن المشاهدون في حينها أن النص الرحباني يقصدها أو يوحي بها أو يومئ إليها.
بهذا المنطق (لا بالتفكير الساذج السطحي في المقارنة بين شخصيات المسرحية وشخصيات حالية على مسرح السياسة عندنا) يجب حضور عمل منصور الرحباني الجديد “آخر أيام سقراط” الذي افتتاحه الليلة.
بل وبأكثر: باعتبار عال للإمكانات التي توافرت لهذا العمل. ففيه حضور رفيق علي أحمد (الراسخ القوي على خشبتنا)، إلى هدى التي باتت ووليم حسواني من ثوابت الحضور في المسرح الرحباني. وفيه أوركسترا سمفونية من 70 عازفاً. وفيه إخراج مروان الرحباني الذي أثبت في “الانقلاب” أنه يوقع عملاً ناجحاً على نهدة طليعية ذات نكهة جديدة. وفيه مشهدية جميلة تجمع الديكور إلى الكوريغرافيا إلى الملابس، تحت إضاءة فؤاد خوري الذي عالج بقع الخشبة بتقنية ترضي عين الكاميرا (سينما، تلفزيون) كما ترضي عين المشاهد في الصالة. وفيه الحوار الذكي الرحباني السهل الممتنع الذي يبرع فيه منصور بجمع الجمال إلى القوة إلى الإلماح إلى العبارات التي تسري مثلاً، وفيه الأغاني التي تبقى في البال حين يغادر المشاهد الصالة.
الليلة موعدنا مع جديد منصور الرحباني، والموعد مع منصور واعد دائماً بشمس جديدة تضيف إلى شموسنا الرحبانية ألقاً لزماننا المالح، اعتدناه مع عاصي ومنصور ولا يزال يمدنا به منصور بعبقريته الرحبانية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*