إنه العصر الإلكتروني يزحف في حيثما وكلّما وبينما وأَينما، مُلْغياً ظواهر كثيرةً كانت حتى اليوم تَصْدُر على الورق. من هنا تَوَسُّعُ انتشار الكتاب الإلكتروني والصحيفة الإلكترونية والرسالة الإلكترونية وبطاقات السفر الإلكترونية وحتى بطاقات المعايدة الإلكترونية (كي لا نُطيل اللائحة أكثر، وهي طويلة).
هذه الظاهرة تتجلّى في انْحسار النتاج الورقي تدريجاً وفي سرعة وأحياناً في مفاجآت، فتتوقَّف جريدة أو تتحوّل أخرى الى الشاشة. من هنا انتقال أُسبوعية “المجلة” السعودية، في نهاية هذا الشهر، الى مَجلّة إلكترونية تَصدُر من لندن، بقرار من لجنة الاستثمار في مَجلس إدارة “المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق”، بعدما تبيَّن لَها أن “استمرار المجلّة ورقياً بات عبئاً، ولا بُدّ من نقلة تواكب تطورات صناعة النشر وتَحولاتها الاقتصادية في استثمار المحتوى عبر وسائط أخرى كالإنترنت والجوّال والتلفزيون والاذاعة”.
في المقابل، عوض الانتقال الى العصر الإلكتروني، أَقفَلت شركة إدوارد سْكريبْس (تأسَّست في2/11/1878 في سنسيناتي/أوهايو) جريدة “روكي ماونتِن نيوز” التي كانت تُصدرها (منذ 1926 في دنفر/كولورادو) بعدما هبطت مبيعاتُها الى أقلّ من ربع مليون نسخة يومية فأعلنت في 4/12/2008 عن نيّتها في بيعها. إنما لم يتقدّم أحد لشراء هذه الجريدة العريقة، الأقدم في ولاية كولورادو (تأسست في 23/4/1859 ولم تتوقف يوماً واحداً طوال 150 سنة حتى تاريخ إقفالها في 27/2/2009) . وأكثر: كانت من أكثر الصحف المحلية في قطف التقديرات (4 جوائز بوليتزر للصحافة سنة 2000، وجائزتين سنة 2006 لأفضل مقال وأفضل صورة). وعرضت الشركة للبيع جميع موجودات الجريدة من اسم وأرشيف وموقع إلكتروني وسائر المحفوظات الموجودة منذ أول تاريخ الجريدة.
أمام هاتين الظاهرتين اللتين تزامنتا معاً في آخر الشهر الماضي، يبرز السؤال البديهي: هل الصحافة الورقية الى انحسار أمام زحف الصحافة الإلكترونية؟ أليس تَحوُّل أُسبوعية عريقة كـ”المجلة” السعودية الى الإنترنت، وتوقُّف يومية عريقة كـ”روكي ماونتِن نيوز” عن الصدور، دليلاً على أن “القراء” لم يعودوا (كما من قبل) يقصدون المكتبة أو الكشك أو البائع في الشارع لشراء الجريدة، بل يقرأُونها أمامهم على الشاشة في غرفة بيتهم أو مكتبهم أو في حيثما يكونون ومعهم جهازُهم المحمول الموصول فضائياً بشبكة الإنترنت؟
ليس هذا الأمر جديداً على الصحف، فهي من زمان تَحفظ أعدادها في وسائل غير ورقية بدأت بالميكروفيلم (وما يتطلّبه من مساحة) وانتهت الى الأقراص المدمَجة (ولو مساحتُها أقلّ) قبل أن تبلغ اليوم تصويرَها الإلكتروني وحفْظَها في ذاكرة الكومبيوتر التي تستوعب آلاف الأعداد في ما لا يتطلّب شبراً واحداً من المساحة المادية.
هل خسرت الصحافة في انتقالها من الورق الى الشاشة؟ يقيناً لا. بل عوّضت عن قرائها ورقيةً بِمساحة إلكترونية أوسع من القراء، استدرجَت تلقائياً مساحاتٍ أوسع من الإعلانات وتالياً أسعار إعلان أعلى لبلوغها قراءً (لَحظة الصدور نفسها) في آخر الأرض ولم تعُد مضطرّة الى “شحن” أعداد الجريدة الورقية لتبلغ قرّاءها الى البلدان البعيدة في اليوم التالي أو بعد أيام.
وبات شراؤُها يتمُّ إلكترونياً (كما حال الكتب) والاشتراك بها كذلك والإعلان فيها والكتابة فيها، ما يعني ثورةً حقيقية في تقدُّم العصر، على كل فرد أن يواكبها كي يغنمَ من ثرواتها (نعم “ثرواتها”)، وينعمَ بغناها، فينتقل في فضاء عالمها الى الـ”هناك” الفسيح الوسيع اللامَحدود، بعيداً عن ضحالة الرمول، وعتمة قعر الآبار.