نتناول هذه العبارة: “أربع سنواتٍ من التحضير، ميزانية 10 ملايين دولار لهذا المشروع الضخم الذي يَجمع أرفع أعمال المشهديات المسرحية في المشرق والمغرب، سعياً الى انفتاحنا على الثقافات الأخرى من أجل تفاهم أفضل بين الشعوب. فأفضل وسيلة لمعرفة شعب، هي التعرف الى ثقافته”.
قائل هذه العبارة ليس مشرقياً ولا مغربياً، ولا علاقة له بهما. إنه مايكل كايزر رئيس مركز كيندي في واشنطن، معلناً انتهاء التحضير لاحتفاليات “الفنون العربية” (ثلاثة أسابيع من فعاليات ثقافية فنية عربية بعضُها مفتوح للجمهور مَجاناً) في مهرجان “آرابسك” (تَعَاوُناً مع جامعة الدول العربية) يشارك فيه 800 فنان من 22 دولة عربية، يقدمون عروضاً موسيقية ومسرحية وكوريغرافية وحرَفيّة وفوتوغرافية وتشكيلية وثقافية عامة، في هذا المركز الذي لعلّه بين الأهمّ في العالم (صالة أوبرا، صالة كونشرتوات، صالة مسرح، أربع صالات لعروض ومعارض) جميعُها ستكون مفتوحة لاستقبال العروض العربية.
كيف نقرأ كلام رئيس المركز؟ وكيف نقابل هذه التظاهرة الإنتر- عربية الضخمة بهذا الحجم الكبير؟
نقرأُه أوَّلاً بعين الرضا والغبطة أن يقصد الجمهور هناك مركزاً بهذا المستوى كي يتابع عروضاً ومشهديات عربية. ونقرأُه ثانياً بعين الارتياح الى ما سيُشاهد هذا الجمهور طوال ثلاثة أسابيع من تراث عربي متنوع مغاير تَمتدّ هويّته من أقصى المشرق العربي الى أقصى المغرب العربي. ونقرأُه ثالثاً (وهنا الأساسُ غير العاطفي وغير النوستالجي وغير الشوفيني) بعين متسائلة: أكان يَجب انتظار “كيندي سنتر” كي يقوم بمهرجان الأَرابسك هذا، عوض أن يكون في دولة عربية تَجمع إليها الدول الاثنتين والعشرين، أو أكثرها، من دون أن يُعيق التظاهرةَ حَرَدٌ سياسيّ بين الحكّام العرب؟ وهل 10 ملايين دولار مبلغ كبير لإنشاء مهرجان بهذه الضخامة تشارك فيه دول عربية، واحدتُها قد تُخصِّص هذا المبلغ (أو أكبر منه) كي تقيم احتفالاً وطنياً يذوب نصف تكلفته على ألعاب نارية تذهب هباءً في عتمة الليل أو على ديكور فخم ضخم يزيله العمّال فور انتهاء الاحتفال؟ أما كان يُمكن أن يكون هذا المهرجان في دولة عربية تستقطب إليها شقيقاتها العربيات وتنظّم هذه الدولة برنامجاً ضخماً إنتر-عربياً منوَّعاً يستقطب إليه آلاف المشاهدين من العالم الغربي قبل العربي، عوض أن نذهب نَحن الى الغرب كي نعرض ما لدينا ونعرّف الغرب بنا؟ أكان ضرورياً أن تتبنّى أميركا هذا الحدث العربي الكبير في حين من العرب مَن يستزلمون لأميركا، ومنهم من يقاطعونها، ومنهم من يهاجمونها، ومنهم من يَكيل لَها نعوت “منبع الشر” و”الشيطان الأكبر” و”وكر الإمبريالية”، وها أميركا نفسُها تستضيف أكبر تظاهرة ثقافية فنية عربية عامة، لأنها تعرف قيمة الثقافة وتدرك أن هوية الشعب الحقيقية هي ثقافتُه الإبداعية لا خُطَب حكّامه وسياسييه؟ هل البترول والثروات الطبيعية فقط هي هويتُنا؟ وهل صورتُنا أمام العالم هي فقط في إقفال الحدود بين دولة عربية وأخرى، أو اجتياح حدود أو أرض، أو مقاطعة دولة (أو أكثر) مؤتَمراً عربياً؟ وهل “فرادَتُنا” فشلُ الجمع بين شعراء أو مفكرين أو فنانين من دول عربية مُختلفة في مهرجان واحد؟
هكذا نقرأُ الكلام أعلاه من رئيس “كيندي سنتر”. أمّا كيف نقابل هذه التظاهرة، فبإيجابية معطوفة على الاتّعاظ منها كي نعود فنتجمّعَ ثقافياً (لأن التجمُّعَ السياسي فالج أبديّ) ونُثبتَ أننا شعبٌ ذو تراث وحضارة، ولديه الكثيرُ المشرّفُ يقدّمه للعالم، على الأقلّ كي يعوّض في ذاكرة التاريخ السياسيّ العربي عن نهاية ملوك الطوائف ومغيب بني الأحمر في الأندلس.