أسوأُ ما في الفنّ: أن يتصنَّمَ في إطارٍ جامدٍ تقليديٍّ كلاسيكيٍّ اتّباعيٍّ مُعلَّب، فيفقدَ روحه الرساليّة ويُصبحَ سِلعةً نَمَطِيّةً بين مُنتجِه والمتلقّي، حين لا تكون اللوحة إلاّ في غالري (فقط)، أو المقطوعة الموسيقية في صالة كونشرتو (فقط)، أو المسرحية على خشبة المسرح التقليدية (فقط)، …
اليوم، مع تَطَوُّر العصر وانفتاح العالَم على أُفُقٍ وسيعٍ تربطُ أطرافَهُ وأَوصالَهُ وأرضيَّتَه شبكةُ إنترنت تَجعلُ بلوغَ أيّ مُعطى (أو مادة أو معلومة) عند أطراف الأصابع على “فأرة” الكومبيوتر، وأَمام عينين تستوعبان الشاشة اللامعدودة الآفاق، خرج الفنُّ من صنميّة الإطار (من حُسْن حظّنا نَحن المتلَقّين في هذا العصر الإلكتروني) فكَسَرَ “برواز” (إطار) الصورة، وخرج الى مُطلقيّة أُفقٍ لَم تَعُد له حُدودٌ وقيودٌ وسُدود، لأن المدى السايـبيري الافتراضي لا حدودَ له ولا قيودَ ولا سُدود.
من نَماذج “كَسْر البرواز” ما نشهده من أعمالٍ فنية (لوحات، تَماثيل، منحوتات، أنصاب، حفْر نافر، فسيفساء،…) في المستشفيات (غرفها، مداخلها، أروقتها،…) أو في حدائقَ عامة أو باحات خاصة، أو مَحطات المترو أو المطاعم أو في أماكن غير مأْلوفة لَها (مصارف، مؤسسات، مطاعم، مقاهٍ،…) أو كتجربة متاحف (في واشنطن قبل أُسبوعين) خرجَت الى الساحات والأروقة في تَماثيل كبيرة الحجم جمعَت الفن الى الترفيه الى المرايا الى المصابيح الى أسلاك تشعُّ هبّاتٍ دافئةً كي تستوقف جمهوراً يُعيقُهُ عن التأمُّل لفحُ البرد، أو أداء عازف في مَحطّة قطار (تَجربة العازف العالَمي “جوشُوَى بل” داخل مَحطة القطار في واشنطن بتنظيم من جريدة “واشنطن بوست”)، أو تقديم عرض موسيقيّ أو أُوبراليّ في مكان وسيع عام (نشاهده غالباً على شاشة مَحطة “متزُو” التلفزيونية التي لا تذيع إلا الأَعمال الموسيقية الراقية) أو تقديم عمل مسرحيّ يُمثّله سُجناء في زنزاناتِهم (تَجربة سجن رومية في لبنان)، أو أُمسية شعرية في حانة أو مقهى، … ما يَجعل الفنّ في متناول العامة، غيرَ مقتصرٍ (كما في الماضي) على الخاصة أو النخبة من ذوي القُدرة على شراء لوحة من غالري، أو بطاقة (باهظة الثمن أحياناً) لِحُضور مسرحية في دار أوبرا، أو متابعة كونشرتو في صالة موسيقى.
وأكثر: لَم يعُد الفن قصْراً على الترف والتسلية والترفيه وإبْهاج العين أو الأُذن، بل بات عاملَ شفاءٍ ومعالَجةٍ نفسيةٍ وجسديةٍ مع ذُيوع موسيقى خاصة أو لوحات أو صوَر مُختارة مقصودة في أروقة مستشفى أو عيادة، ما يَخلق جواً من الإيجابية والتفاؤُل والفرح، يغيِّر المزاج والنفسية والمعنويات فلا يعود المكان (مستشفى، عيادة،…) موضِعَ حُزنٍ وتشاؤُمٍ وموت.
من هنا لا يعود الفنُّ “فاكهةً” تؤكل أو لا، ولا يكون من الـ”كماليات” التي تؤخذ أو لا، ولا يُمسي من الـ”ثانويات” التي تستحوذ الاهتمام أو لا، بل يُصبح الفنّ “خبزاً” ضرورياً ليس لأوقات معينة بل غذاءً يومياً يرافق المواطن من البيت الى المدرسة الى الجامعة الى الشارع الى الباحات العامة الى مذياع الإذاعات الى شاشة التلفزيونات، حتى يُمسي الفنُّ ملازماً تفاصيلَ الحياة اليومية فيُهذّبَ الذوق ويُرقّي المزاج ويَزيدَ الثقافة ويطوّرَ الطبْع ويَرفَع السلوكيات ويرافقَ كتاب المدرسة ودروسَ الصف وبرامجَ العطلات ونِهايات الأسابيع، ويتحوَّل الفنُّ رفيقَ المواطن منذ طفولته الأُولى فصباه فَيَفَاعته وشبابه فلا يكبَر إلاّ وذوقُهُ مرهَفٌ، ودماغُه مكرّسٌ بالفكر العالي والحسّ العالي والمستوى العالي، في كلّ تفصيلٍ من حياته اليومية.
فمتى يتحوَّل عالَمُنا العربي الى تثقيف الشعوب وإظهار إبداعاته، عوض حالة الاستزلام الأعمى التي لا تَخدم سوى أرباب الأنظمة؟