10 شباط 2009 العدد 12824 السنة 37
لن أُكرّر ما سبقَ لي غيرَ مرة أن ذكرتُهُ في هذه الزاوية بالذات، عما لقيتُه في الكويت، خلال زيارتي الأخيرة، من حبٍّ كويتيّ نبيل للبنان وبيروت، وما تعني بيروت ولبنان للكثيرين من الكويتيين. فتلك بداهة لم تعُد في حاجة الى تأكيد.
ولم يعُد من الضروريّ تكرارُ ما تعني بيروت للكثيرين من السيّاح والزوار العرب (من خلال ما أسمعه منهم حين أنا في بلدانهم، أو ما أعاينه منهم في لبنان حين هم هنا). فتلك أيضاً حقيقةٌ لم تعُد في حاجة الى إثبات.
غير أنّ ما بدأ يرشح في بعض وسائل الصحافة والإعلام من “شكّ” في مصداقية ما صدر في “نيويورك تايمز” (عدد الأحد 11/01/2009) من كون بيروت “أول وُجهة سياحية في العالم” بين 44 مدينة وعاصمة عالَمية، سابقةً واشنطن (التي حلَّت الثانية)، فأمرٌ لا يعود مُجرد رأْي مناهض أو ناقد، بل أمرٌ يدعو الى الريبة في نوايا المشكّكين.
وبين فرح الكثيرين من العرب (مواطنين في بلدانهم أو سيَّاحاً وزوّاراً في لبنان) وتشكيك الحسودين من العرب (مواطنين أو صحافيين أو إعلاميين) يبرز حضورُ بيروت التي تتأنّق وتغوى، عاليةَ الجبين، سيّدةَ الهيبة، مَلَكيّة القامة، أميريّة الطَّلّة، تُواصل في الزمان مشيتها الأسطورية صوب اختراق التاريخ غداً مشرقاً لا يعادله سوى ماضيها المشرق من أول الزمان.
ولسنا هنا في حاجة الى الدفاع عن بيروت (هل من يدافع عن مدينة ساحرة دانَ لَها العالم؟) ولا في حاجة الى الدفاع عن “نيويورك تايمز” (إحدى أكبر صحف الكرة الأرضية، ولا تَحتاج من يدافع عنها ولا عن مصداقيّتها العالَمية والدولية ولا عن أسطولها الصحافي الضخم). لكننا هنا لنركّز على أن الحسد يأكل من غيظ الذين في طبيعتهم أقزام ويشتُمون العمالقة لأنهم يَحجبون عنهم نور الشمس، فلا نور الشمس يتأثَّر ولا يشعر بهم العمالقة.
لذلك قلتُ إن بيروت تواصل هيبتها في الزمان. والزمان ليس مَحطةً ولا سَنَةً أو شهراً أو يوماً، ولا حادثةً ولا ظاهرةً سياسيةً عابرةً زائلةً كفقاقيع الصابون. بيروت حقيقةٌ ثابتة. وكلُّ ما يُحيط بها من ضباب سياسي (بين فترة وأخرى) وأمني (ذات فترة) ومَرَضيّ (مظاهرات، احتلال شوارع، تدمير أزقّة،…) ليس سوى من العوارض التي تزول ولا تترك إلاّ خدوشاً طفيفة في وجه بيروت سرعان ما يُزيلها جمالها الأسطوري الذي لا يزول، وتعود بيروت كما هي بيروت. وتبقى هي الآسرة الساحرة الجمال، الأخَّاذةَ بالقلوب والعقول، الجاذبةَ إليها الأبعدين والأقربين، بتركيبتها وحريتها ومناخها الفكري وواحاتها الأدبية والفنية، ورحابتها الاجتماعية، وغناها السياحي، وثرواتها الثقافية، ولياليها التي لا تشبه ليالي مدينة أخرى في هذا الشرق، ومعابدها التي يتجاور فيها الـ”كيرياليسون” مع الـ”الله أكبر”، وجامعاتها التي هي اليوم في صدارة جامعات الشرق، وكلّ ما فيها، كلّ ما فيها من جواذب وجمالات تَجعل قلوبنا لَها وفيها ومنها وإليها، حتى آخر حدود الشغف.
بلى… هذه هي بيروت، بيروتُنا، بيروتُكم، بيروتُ كلّ قلب نقي صادق أبيض، بيروت التي ابتلعها البحر مراتٍ وعادت فخرجت من البحر أجمل مما كانت، وهي اليوم كذلك: يبتلعها بَحرُ الحسد فتخرج من قهر حاسديها أجمل وأبهى، تتبخترُ على رؤوس الحاسدين فينزلون هُم في تراب البشاعة وترقى هي الى عرش الجمال.
لأنها بيروت، نُحبّها. ولأنها بيروت، ننتمي إليها. ولأنها بيروت، يـنتمي إليها معنا فقط من يستاهل أن يكون طاهراً كي يدخل نقياً الى حَرَم الجمال.