بدعوةٍ من “مبادرة أَلو بيروت” تحييها الدكتورة منى حلَّاق، حضرتُ هذا الأُسبوع في “بيت بيروت” (السوديكو) ندوةً عن “أَسواق بيروت بين الأَمس واليوم وغدًا”، أَدارها المهندس محمد طعمة، كنتُ خلالها متنازَعًا بين النوستالجيا والغضب والاستشراف.
- النوستالجيا إِلى بيروت كما عرفتُها قبل الحرب، في ما سَرَدَهُ مؤَسس ورئيس جمعية “تراثُنا بيروت” الصديق سهيل منيمنة عن تاريخ أَسواق بيروت بين أَبوابها التاريخية، مفصِّلًا منها ثلاثة: سوق الصاغة (وكان اسمه الأَول “سوق رعد وهاني” عند افتتاحه سنة 1887)، سوق سرسق (وكان اسمه الأَول “سوق سرسق وتويني” عند افتتاحه سنة 1882)، وسوق الطويلة الذي يَرقى إِلى 1874.
- والغضب في ما سَرَدَهُ المصوِّر الصحافي النقيب نبيل اسماعيل من قصص مريرة عن الأَسواق أَيام الحرب، وما عَرَضَ لنا من صُوَر فاجعة عن دمار بيروت وخراب أَسواقها وانهيار أَبنيَتِها وتَشَوُّه تراثها المعماري.
- والاستشراف في ما سَرَدَتْهُ المهندسة هالة يونس عن أَسواق بيروت وما لحقَها من تغيير وتحديث وعصرنة في إِعادة إِعمارها وفُرَص إِحيائها ولو هي فقَدَت طابعَها التراثي الأَول.
غادرتُ “بيت بيروت” تتجاذبُني مشاعرُ تلاطمَت فيها أَحداثٌ تشهدها بيروت اليوم ويعاينُها ويعاني منها كلُّ لبنان، في وضْع اقتصاديّ مرير، وماليّ كسير، واجتماعيّ فقير، وسْط “راجح” مجهول يهدِّد البلاد بانهيار مرةً، وبانفجار أَمني مرَّات، فيهلع الناس من عودة حربٍ ربما فقدَت عناصرها كما كانت تَأَفْعَنْت سنة 1975. غير أَنَّ الحرب العسكرية إِن لم تنفجر، فالمتاريسُ السياسية تنتصب كلَّ يوم، والحواجزُ النفسية تتنقَّلُ كلَّ يوم، والقنَّاصون السياسيون قراصنَةٌ سافرون كلَّ يوم، وضحايا الجُرم المالي والاقتصادي يتضوَّرون كلَّ يوم، والملاجئ الذهنية تُكَوِّم الناس في بيوتهم توفيرًا مصاريفَ يمكن تجنُّبُ قرشها الأَبيض في هذه الفترات السُود.
وينشُبُ السؤَال:
هؤُلاءِ الذين دمَّروا بيروت ومَحَوا معالم تراثها، أَلَا تتحرك حُثالةُ ما بقيَ في ذاكرتهم حين يَرَون صُوَر بيروت مدمَّرةً مرمَّدة مهشَّمة، كي يتَّعظَ القرَفُ الأَخير في ضمائرهم فيرتَعِدوا ويرتدِعُوا عن مواصلة نكَدهم السياسي، وعن وقف هذا العناد الكارثيّ بين أَهل البيت الواحد والطائفة الواحدة والبيئة الواحدة؟
هؤُلاءِ الذين يَسمعون الأَنين من دمار بيروت الأَپُّـوكالِــپْسيّ، أَلَا يَسمعون نداءَ العالم كلِّه، ڤاتيكانِهِ وعَلمانيِّه، لانتخاب رئيس جمهورية سريعًا فيبدأُ بحمْل صخرة “سيزيف” من أَسفل القعر إِلى قمَّة صنين، لعلَّه يكْسر وهْم أَننا ننتظر “غودو”؟
هؤَلاءِ الذين يَمشون على يأْس المواطنين كي يبْلُغوا مآربهم السُلطوية والرئاسية ولو انهار الباقي من الهيكل، هل يَعرفون أَنهم منذ اليوم يَلْعَنُهم جيلٌ لن ينتظرهم طويلًا كي يَفضح أُفعُوانياتِهم وثعلباتِهم وإِجرامَهم في حق شعبٍ يهرُب منه مستقبلُه بين انكسار وانتظار؟
بلى: لعنةُ التاريخ ستسحقُهم نَسْلًا نَسْلًا، فتحتقِرُهم أَجيالُنا المقبلة بما هو أَقسى من لعنة اللبنانيين اليوم… وكلَّ يوم.
هـنـري زغـيـب