هنري زغيب
قبل انتشار السياحة العامة كان المغرب، المعتَبر “لؤْلؤة شمال أَفريقيا”، بعيدًا عن وعي العالم الخارجي سحره الفريد، فلم يكُن يبلغ العالم منه سوى أَنه أَرض السلاطين والبهارات والصحارى المتناثرة. زاره في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين عددٌ من الرسامين وضعوا عنه لوحات ورسومًا عرَّفت به الغرب فلم يعُد في الذهن الغربي أَنه “ذاك البلد البعيد”.
بين أُولئك الفنانين الذين فُتِنُوا بطبيعة المغرب: الرسامُ الفرنسي هنري ماتيس (1869-1954).
فما الذي حمله إلى المغرب؟
رائد التيار “التوحشي”
كان ماتيس بين أَكثر رسامي جيله تأْثيرًا في القرن العشرين. وُلِد في بوهين (شمالي فرنسا) ولم يبدأْ بالرسم إِلَّا وهو في العشرين. بعد سنة من الدراسة الحقوقية في باريس، عاد إِلى بلدته موظفًا لدى كاتب بالعدل، وراح يحضَر دروسًا صباحية في الرسم لدى مدرسة محلية في البلدة. سنة 1891، بعد إِبلاله من نوبات حادة في الزائدة، غادر عمله الحقوقي وعاد إلى باريس يتخصص في الرسم، ليمتهنه طيلة ستة عقود أَصبح خلالها سيِّد استعمال الأَلوان، وكان رائد في ما سُمّي في الرسم فترتئذٍ “التيار المتوحش” (القائم على الإِكثار والمبالغة من استعمال الأَلوان)، ومعظم لوحاته مناظر وَوُجوه وعاريات ومشاهد داخلية.
لأَنه كان متأَثِّرًا ببلدان البحر الأَبيض المتوسط، غلَب في لوحاته اللون وهو جوهر ما في تلك البلدان. من هنا كانت حاجته إِلى استلهامٍ أَقربَ وأَقوى، ما دفعه إِلى زيارة المغرب مرتين سنتَي 1912 و1913. كان يرمي إِلى لقاء تلك البلاد وأَهلها وما فيها من ثقافة شمال أَفريقيا تحديدًا والشرق عمومًا، وغرابات كان قرأَ عنها فأَحَبَّ أَن يقترب منها، ومما في مخيِّلته عنها من أُسُود وصحارى وسلاطين وبهارات وكنوز. لذا كان يَشدُّه إِلى تلك البلاد البعيدة أَن يجد له وُجهةً فنية جديدة وثقافة جديدة.
حين وطئَ طنجة
نزل ماتيس خلال رحلتَيه في فندق “فيلَّا فرنسا” في طنجة. حين نزل من الباخرة أَول مرة في مرفإِ طنجة سنة 1912 شعر بخيبة أَمل. وفي رسالته إِلى صديقته الشاعرة الأَميركية جرترود شتاين (1874-1946، انتقلَت إِلى باريس سنة 1903 وأَمضت فيها بقية حياتها فاتحةً بيتَها صالونًا أدبيًّا كان ماتيس أَحد رواده) كتَب إِليها شاكيًا: “لم ينقطع المطر طيلة خمسة أَيام، فانحبستُ في غرفتي ولم أَجد إِلَّا الرسم فيها مُرغَمًا”.
بدأَ يرسم ما يراه حوله من أَدوات ومشاهد، بدءًا من الزهور في غرفته، ثم أَخذَت ريشتُه تَغْنى من النُور والأَلوان في البلاد. وأَخذ تباعًا يستلهم جوَّ طنجة ويوسِّع استلهاماته، ما أَمسى بعدها تَرَكُّز أُسلوبه في المغرب، كما في لوحته “مشهد من نافذة الفندق” وتبدو فيها كنيسة القديس أَندراوس وخلفها ناحية القصبة، وهي نموذج استعمال ماتيس كثرةَ الأَلوان في المناظر والمشاهد. وحتى اليوم يتيح الفندق زيارة غرفة ماتيس لنزلاء الفندق الذين يرَون على الطبيعة ما جاء في لوحة ماتيس قبل 110 سنوات.
ومن موقع الفندق أَيضًا، وبالأُسلوب ذاته، رسم ماتيس لوحته “خليج طنجة” من زوايا مختلفة فبدَا فيها الأَزرقُ والأَخضرُ على القرميد في سطوح بيوت المدينة، إِلى منظر الخليج والغيوم الشتائية فوق بحره.
هو و”القصبة”
وكان لناحية القصبة ومحيطها حيِّزٌ واسع في لوحات ماتيس، خصوصًا بعد انحسار المطر المتتابع وصفاء الفضاء وشروق شمس مراكش الحارة، ما أَتاح للفنان أَن يتنقَّلَ بِـحُرِّيَّة ويكتشفَ سحر المدينة. وبدون أَن يبتعد كثيرًا عن الفندق، رسَمَ الكثير من لوحاته عن القصبة والمدينة والقلعة وسور المدينة الذي من العصور الوُسطى. وككُل من يزور مراكش، كان ماتيس لهيفًا إِلى زيارة القصبة وسُوقها الصاخب.
وفي لوحته “مدخل القصبة” يبدو الفارق الواضح بين النور والظل، وهي ظاهرة لافتة في مراكش، ومشهد مأْلوف بزُرقة السماء التي تنهمل فوق القرميد الأَحمر على سطوح البيوت، فيبدو التناقض الحاد في بهرجة الأَلوان.
“سيدي أَحمد”
رسَمَ ماتيس ضريح “سيدي أَحمد” عند طرَف القصبة، وهو مبنى مميزٌ بهندسته التي تتفرَّد بها طنجة خصوصًا ومراكش عمومًا. والمبنى يرقى بناؤُه إِلى 1865، وهو اليوم مُصَلَّى يستذكر سيرة “سيدي أَحمد” عضو أُسرة كانت سيِّدة المدينة عصرئذٍ. صحيح أَنَّ ماتيس رسَمَ وجوهًا ومناظر ومشاهد بطريقة تجريدية غير مأْلوفة، لكن لوحاته من مراكش وضعَها بأُسلوب واقعي انطباعي.
كما توَقَّف في مقهى قرب القصبة، ورسم لوحته “مقهى في مراكش” بأَلوان هادئة مبْرزًا روَّاد المقهى بــ”الجلَّابية” المغربية الرمادية والقماطات البيضاء، ما كان غريبًا وجديدًا على رسام فرنسي عهدئذٍ.
واضح تأَثُّرُ ماتيس بمشهد البيوت المطليَّة بالأَبيض، والقصور العريقة منذ عصور وثقافة شمال أَفريقيا في كل ناحية. فهو سنة 1915، بعد سنتَيْن على عودته من المغرب، عاد فرسم لوحته التكعيبية الشهيرة “المغربيون”، وأعاد العمل على لوحة “مصطبة المقهى الصغير في القصبة”، ويبدو فيها المسجد خلف شرفة عليها آنيةُ زهر، ورجلٌ يلبس طاقية بيضاء، ويجمع الأَسْوَد أَجزاءَ اللوحة في مناخ خاص كان يعيشه يوم جلَسَ في ذاك المقهى ورسمها.
قراءة ماتيس قبل زيارة المغرب
حتى اليوم، ما زال روَّاد الفن، قبل أَن يقصدوا المغرب عمومًا ومراكش خصوصًا، يعودون إِلى لوحات ماتيس كي يتذَوَّقوا فيها سلفًا مناخًا عاش فيه هنري ماتيس وترَكَ عنه لوحاتٍ ما زالت نكهتُها حتى اليوم نابضةَ الإِيحاء.
وهنا عبقريةُ الفن الخالد.
كلام الصوَر:
- ماتيس: “خليج طنجة” (1912)
- “مشهد من نافذة الفندق” (1912)
- “مدخل القصبة” (1912)
- “ضريح سيدي أَحمد” (1912)
- “مقهى في مراكش” (1912)