حين تلقَّيتُ من الأَميرة أَلكسا قيامة وشقيقها إِيلي دعوة لإِقامة ندوة التراث الثلاثية في فندقهما “أُوتيل نيو سنترال” – ضهور الشوير، ما كنتُ أَتوقَّع جمهورًا كالذي حضر.
أَقول “الندوة الثلاثية” لأَنها تضمُّني إِلى الزميلَين الخبيرَين البروفسور أَنطوان مسرّة والأَستاذ سهيل منيمنة.
وأَقول “الخبيرَين” لأَن الدكتور مسرة رئيس كرسي الأُونسكو في الجامعة اليسوعية ويهتم مباشرةً بالتراث، ولأَن الأُستاذ منيمنة رئيس جمعية “تراثنا بيروت” المهتمة بتراث عاصمتنا الغالية، ولأَني منذ تأَسيس “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU أَهتم بحفظ التراث والمحافظة عليه.
وأَقول “ما كنت أَتوقع” لأَنني، في هذه الفترة بالذات من أَوضاع البلاد، تخيَّلتُ جمهورًا ضئيلًا بين العمر الثاني والثالث، ممن باقيةٌ في بالهم أَهميةٌ للتراث اللبناني. غير أَن الجمهور الذي حضر، كان كثيفًا ومنوَّعًا بين مجموعة راشدين ونخبة ممتازة من الشباب والصبايا جاؤُوا ينْهَلون من التعرُّف إِلى كنوز تراثنا، وكيفيةِ اكتشافها، والإِفادةِ منها، ونشْرِها في صفوفهم مدرسيًّا وجامعيًّا واجتماعيًّا.
لفتني أَنهم تفاعلوا كليًّا مع النقاط الرئيسة التي عالجناها في الندوة.
فهُم التقطوا ما طرحتُهُ من أَن لبنان ثلاثُ طبقات كيانية. الطبقة العليا وهي لبنان الوطن الرحيب تاريخًا وحضارةً وأَعلامًا ومعالِمَ وعلامات، والطبقة الوُسطى: لبنان الدولة وهي هيئة معنوية ذات مراكز دستورية وقانونية تنتظر من يملأُ وظائفها، والطبقة الدُنيا: لبنان السلطة وهو مجموع سياسيين يتولَّون قيادة الدولة، فإِذا كانوا صالحين صَلُحَت بهم وازدهَرَت، وإِذا كانوا فاسدين فَسُدَت بهم وسقَطت إِلى دولة فاشلة.
ولَفَتَني أَنهم التقطوا فكرة البروفسور مسرّة من أَنَّ تاريخ لبنان لا يُدَوِّنه المؤَرخون بل يكتبه المواطنون بجمع وثائق لديهم من كل نوع، كي تكون صفحة من الزمن اللبناني الطويل. ولا يكفي حفْظُ التراث بل الأَهمُّ نقْله إِلى الأَجيال الجديدة، وإِنشاءُ متاحف بلدية في كل بلدة حتى يكون المتحف ذاكرةً جامعةً تلك الكنوزَ التراثية والوثائقية.
ولَفَتَني أَنهم أَحبُّوا التشبُّه بما طرحه الأُستاذ منيمنة من نشاط جمعية “تراثُنا بيروت” بين أَفلام وثائقية وأَفلام قديمة نادرة، ومنشورات تسطَع في الذاكرة، وما عاجَلَت إِليه الجمعية بعد انفجار 4 آب في الأَحياء البيروتية التراثية التي هشَّمها الانفجار، وخصوصًا دأْب الجمعية على تكريس “اليوم الوطنيّ لتراث بيروت” في 26 تشرين الثاني من كل عام.
كلُّ هذا كان فوقَ تَوَقُّعي الْمُسْبَق، ما يُؤَكِّد أَن في شعبنا اقتبالَ كلِّ ما يعزِّز هويةَ لبنان الحضارية والتوعيةَ عليها. فإِنَّ في وعي هويتنا الواحدة، الوحيدة الانتماء إلى لبنان اللبناني، درعًا أُولى قويةً حصينة متينة أَمينة لمقاومة كلِّ محاولةٍ تغييرَ طابع لبنان الحضاري، ما يعمِّق في نفوس شعبنا حسَّ التعلُّق بلبنان وعدمَ التخلِّي عنه ومغادرتِهِ عند أَول هَبَّة ريح. إِن الوطن باقٍ أَبدًا، فإِذا ساءَت سلطته السياسية في إِدارة دولته، لا نلعن الوطن بل نعمل على تغيير السُلطة الفاسدة حتى إِذا جاءَت سلطةٌ صالحةٌ تُنْشِئُ عندئذ دولةً مستحقَّةً فعلًا وعملًا أَن تُسَمَّى دولة لبنان الوطن الخالد.
هـنـري زغـيـب