في رَبْعة كَرَكَلَّا
“أَزرار” – الحلقة 1237 – “النهار” – السبت 3 أيلول 2022

الليلُ في بعلبك غيرُهُ في سواها. تتماوجُ من أَزرقه الشفَّاف أَصداءُ سكونٍ ملوَّنةٌ تتناهى من الآلهة بين أَروقة الهياكل غير البعيدة عنّا، فتمتدُّ في السهل ذخيرةً لمواويل الحصادين.

والفجرُ في بعلبك مغايرٌ عما في سواها. ينهض من نومه على مهل، يتلمَّظ النقاط العَسَلية الأَخيرة من كأْس الليل، ويستطْلع التلال والقمم حولَه في سهل البقاع، يُهيِّئُها للشمس حين تستيقظُ وتستعدُّ ممتلئةَ العافية للذهاب إِلى أَشغالها عند الصباح.

والصباح في “رَبعة” كركلَّا مختلِفٌ بجميع المعاني. فما عاينتُهُ نهايةَ الأُسبوع الماضي كان جنَّةً تختزلُها مزرعةٌ مستطيلةُ الحدود، مربَّعةُ الدورات، مستديرةُ الثمار، استَوْلدها عبد الحليم شجرةً شجرة وفاكهةً فاكهة ومساكبَ خُضَر، فإِذا فيها غنائيات رومنسية من أَنقى ما تهب الطبيعة: السرو اللايلاندي، الصنوبر، الصفصاف، الأَرْز، الحور، الزيتون، المشمش، الرمَّان، التفاح، الدراق، الخوخ، البندق، الجوز، اللوز، السفرجل، الإِجاص، تين “كعب الغزال”، مواكب الدوالي… وبين حوار الأَشجار تَتَأَفْعَنُ ممرَّات ضيِّقة وأَروقة مبلَّطة إِذ أَعبُرُها تمد إِليَّ الأَشجار أَغصانها تحيةَ مصافحة فلا أَملك عفويًّا إِلَّا أَن أُبادلها التحية ملامسةً وسلام حنان. فللأَشجار روحٌ وشَمخةُ عنفوان، هي التي – ولو عند نبعة ماء – تفضِّل أَن تيبس فتموت ولا تنحني مستجديةً لِجذُورها شُربَةَ ماء.

ثم: ها هي الخيمة… “الرَبعة” يسمِّيها عبدالحليم. هي خيمة العرب التقليدية. الخيمة البعلبكية! أَمامها نافورة مياه تشهَقُ ناهدة إِلى أَعلى وتُهدي سقسقة ميلودياها إِلى شمس بعلبك.

نَدخل الخيمة. “أَين الـمَتِّة”؟ يسأَل عبدالحليم، فتحضر الـمَتِّة. يَـمَزُّها بــ”القشَّة” الفضية. “هذا أَفضلُ مُنَبِّه صباحيّ” يبادرني. أَمَزُّ مثْلَه من فنجاني. أَكتشف أَنْ لا بدَّ لي من وقت بعدُ حتى “أَفهم” كيف أَستطيب الـمَتِّة.

أُعاين “الرَبعة”. سقفُها قطْن وخيوطٌ من فصيلة السجاديد. حيطانُها من “الزِرْب” (قَصَب فارسي تتداخل فيه خيوط سجاجيد متشابكة). كان في الزمن القديم يفصل الـحَرَم عموديًّا في الخيمة الواحدة بين الرجال والنساء، أَو هو يشكِّل السور التقليدي حول الخيمة العربية، ويعتمر في وسطها منْقل القهوة تتوزع حوله أَباريقُها ويرمقها المهباج.

تُنهي الشمس دوامَها اليومي. تتعرى من حماوتها. تبدأُ بالتمدُّد خلْف سهل البقاع. يعود الليل من عطلته اليومية، تُعلِنه على جبهة “الربعة” أَنوار خضراء كي تتلاءَمَ مع خُضرة الشجَر فلا يَتَنَمَّر لونٌ على لون.

تَتعب نافورة المياه. تَسكُت. تَطوي حبْلها المائي الناشب. تَضعُه في جَيب البُركة التي امتلأَ حوضُها زقزقاتٍ من أَقاليم النهار كانت النافورة حصدَتْها من وقتٍ هاربٍ بين صعود الشمس على الحبل العالي وسقوط قُبُلات المياه على خدّ البُركة.

يطلُّ علينا نسيمٌ لطيف. من السهل ربما، أَو ربما من فوق : من هذه التلال أَمامنا بدأَت تتراهج منها أَنوار خجولة تكاد لا تكفي لإِضاءَة بيت.

يعود السكون إِلى السهل. تتباطَأُ قرقرة النراجيل في “الرَبعة”. الضيوف جاؤُوا يُحيُّون “الأُستاذ” الذي لا يأْتي دائمًا إِلى مزرعته. ولا بدَّ من ردّه التحية بنربيج الأَ كيلة.

يغادر الضيوف. تَهدأُ “الرَبعة”. تكون خلوةٌ ثنائية بيني وبين عبدالحليم. بعضُها انطباعاتي البعلبكية من نهار في “الرَبعة”، وبعضها الآخر في مناقشة العمل الجديد بتوقيع كركلَّا.

يتوغَّل صمتُ الليل. تختلط لأْلَأَةُ النجوم بين قبَّة الجَلَد وسقْف الخيمة.

ينطوي ليلٌ بعلبكيٌّ فريدٌ، في انتظار فجرٍ جديدٍ يهلُّ على السهل من جديد في يوم جديد تَغمِز فيه الشمس حلْمًا جديدًا ينهض من نومه في “رَبعة” كركلَّا.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib