استنفد السياسيون التنظيريون جميع مفردات القاموس في ثرثرتهم عن صفات الرئيس المقبل، بين “الجامع”، و”التسوَويّ”، و”رئيس التحدّي”، و”التغييري”، و”الوسَطي”، و”المعتدل”، و”الإِصلاحي”، و”الصدامي”، و”القوي”، و”المستقلّ”، و”التوافقي”، و”المتحرر”، و”الوطني”، و”غير الاستفزازي”، و”الرجل الصلب”، و”لا من 8 ولا من 14″، … وتلاطمَت الصفات وتناقضَت وتوافقَت، وجميعُها غرغرة سياسية عقيمة.
بين هذه التوصيفات السياسية الرخيصة المعلوكة الممجوجة، لم أَجد إِشارة واحدة إِلى الترشُّح على أَساس وعي حضارة لبنان كي تُعيدَه رئاسته نموذجًا محترَمًا فيعي العالَم أَن لبنان دولة فاشلة، صحيح، وسُلطة عقيمة، صحيح، لكنه وطن حضاري رائد في الشرق.
ذات يوم كتب سعيد عقل في عموده “كلمات” (جريدة “لسان الحال”): “لم يحكُم لبنان بعدُ رجلٌ كَتَب كتابًا”. وكنَّا نرضى برئيس إِن لم يكن “كتَب”، على الأَقل يكون “قرأَ” كتابًا. فوصول الرؤَساء عندنا لا يُعنى بجعل الرئاسة واجهة لبنان الثقافية والحضارية، وهو ما نحتاجه اليوم ونحن على مشارف رئاسةٍ جديدة.
بلى: نحتاج اليوم رئاسة مهووسة بلبنان الحضارة، مجنونة بلبنان الفكْر، تعرف إِرث آبائه المؤَسسين وتجعلُه أَساسَ الحُكْم.
رئاسة تشجِّع النهضة وتدعمها لعلْمها أَنها هيَ هيَ واجهةُ لبنان وهويتُه، لا حكومات البلد ولا تشريعات نوابه.
رئاسة تؤْمن بقولة “قدموس”: “نحن صيدونيُّون موطنُنا الأَرض ونأْبى، أَقلّ، ساح الحياةِ”، وتحقِّق قولته: “نحن غيرُ الغزاة… ننزل قفرًا فنخلّيه أَنهُرًا وجنائنْ”.
رئاسة تعرف أَن لبنان الدولة ضئيل الجغرافيا (10452 كلم مربع)، ولبنان السلطة قليل الديموغرافيا (5 ملايين نسمة) لكن لبنان الوطن جليل الإِبداعوغرافيا، وهنا فرادته.
رئاسة تعرف أَن سفيرة لبنان إِلى العالم هي عُروض الأُوركسترا الوطنية الشرق عربية، والأُوركسترا الوطنية الفيلارمونية، لا مجموع سفراء أَكثرهُم ذوو دور إِداري روتيني.
رئاسة تعرف أَن ذاكرة لبنان يبنيها صُنَّاع الإِبداع كأَعمالِ الأَخوين رحباني وفيروز وأَمثالِها فُنونًا وآدابًا هي التي عمَّرَتْ نهضة لبنان لا مجموع نواب ووزراء أَكثرُهم بدون إِرث ولا أَثَر.
رئاسة شُجاعة تقول “لا” بحزم وحسم وعزم، وتقول “نعم” وتفرض الـ”نعم” فلا تتحجَّج بفقدان صلاحيات الرئاسة ولا تنتظر من يمنحها إِياها، لأَن تطبيق الدستور في يد الرئاسة وهذه أَقوى الصلاحيات.
رئاسة تعي أَن شعبنا خلَّاق حين يستعيد ثقته برئاسة بلاده فينهض واثقًا، هنا على أَرضه ويلاقيه اللبنانيون من مَهَاجر العالم.
رئاسة تملك جرأَة فخر الدين، ولبنانية ميشال شيحا، وجذور شارل قرم، ورؤْية شارل مالك، وحنكة رياض الصلح، وشجاعة غسان تويني.
أَقول الرئاسة ولا أُفرق بين “رئيس” أَو “رئيسة”. ووسْط تزاحُم المرشحين ذكورًا، قرأْتُ عن ترشُّحَين نسائيين يعيدان الهيبة إِلى حضور المرأَة اللبنانية عبر العصور.
ترايسي شمعون لا أَعرفها بل أَعرف عنها. أَما مي الريحاني فأَعرفها سيرةً ومسيرة، وأُتابع حضورها العالَمي في الأَوساط الإِنمائية والتربوية والثقافية والنهضوية في أَكثر من دولة وأَكثر من مهمَّة وأَكثر من منصب جامعي ومسؤُولية عليا. وأَعرف أَنها تستمدُّ من عمِّها الرائد أَمين الريحاني انفتاحَه على العالم العربي وبقاءَ نبْضه أَبدًا في “قلب لبنان”، وهذا ما حقَّقَتْهُ ميّ في مسيرتها الطويلة بين أَميركا والعالم انطلاقًا من لبنانيتها الريحانية.
ولأَنني في مطلع هذا النص رأَيتُ إِلى رئاسة لبنان قبل تمييزي بين “رئيس” أَو “رئيسة”، أَختم بأَننا اليوم في حاجة إِلى رئاسة تستعيد الدولة من أَهل السلطة الفاسدين، فتُنقذ كيان لبنان، وتثَبِّت هويتَه في العالَم شمسًا، كما من قبل، تسطَع على آفاق العالَم.
هذه هي التي، حين ننالها، نقول إِنها حقًّا رئاسةٌ تستاهل جمهوريةَ شعبنا وتستحقُّ لبنان الحضارة.
هـنـري زغـيـب