أَكْتُبُ من الرياض.
منذ سنوات كورونية ملعونة وسياسية مشحونة، هذه أَول مرة أَكتب من خارج الوطن.
أَكتُبُ إِذَنْ من مدينةٍ لا أَشعُر فيها أَنني “مزروب” بين توقيت الحقيرين من أَصحاب المولِّدات وتوقيت كهرباء الدولة التي توفيَت بسبب حقيرين من “بيت بو سياسة” أَوصلوا بلادنا إِلى الرعب من العتمة.
أَكتُبُ إِذَنْ بعيدًا عن الضنى القاهر من بُطْء الإِنترنِت، وبعيدًا عن تلال النفايات في الشوارع، وعن لهيب أَسعار المحروقات، وعن بَطَر أَسعار السلَع، وعن الخوف من فقدان دواء أَو من الدخول إِلى مستشفى، وعن غيمة اليأْس المهدِّدَةِ شعبًا كاملًا يرى سياسييه يَتَحَاقَرون في عنْعنَاتهم المحاصَصَاتية نيابةً وحكومةً ورئاسةً، تاركين البلاد “تمشي على ما يْقَدِّر الله”.
أَكتُبُ من هذا البعيد الذي ينقذُني من متابعة تحركات سياسية يومية في لبنان تُذَكِّرُني ببَيتَين من نزار قبّاني في قصيدته “هوامش على دفتر النكسة” (1967): “يوجِعُني أَن أَسمعَ الأَخبارَ في الصباحْ… يوجِعُني أَن أَسمعَ النُباحْ”.
أَكتُبُ من الرياض.
وأَنا لم أَزُر الرياض من سنوات، منذ كنتُ آتيها مُشاركًا (مرَّتين) في “مهرجان الجنادرية”، فإِذا بها مدينةٌ تضُجُّ بِـحَرَكَتَين: ما بلَغَتْه من تَطوُّر وتَقَدُّم، وما عاينْتُ فيها من ورشةٍ متواصلةٍ عمرانيًّا وتقنيًّا وتكنولوجيًّا وإِلكترونيًّا، بُلوغًا إِلى تحقيق “رؤْية 2030” التي أَطلَقَتْها المملكة، ويَنعَم فيها الشعب إِلى ما تَحقَّق وما سوف يَتَحَقَّق.
أَقول هذا لصدْمتي بين: ما يُعاينُه أَيُّ شعبٍ في أَيِّ مدينةٍ من أَيِّ بلَدٍ في العالم، وما يُعاينُه شعبي الـمُعاني من إِهمال السياسيين شؤُونَه وهمومَه وضناه، لأَنهم منصرفون عنه إِلى مصالحهم ومستقبل نسْلهم الـمُقْرِف، مُشيحين عن الناس الذين، مع ذلك، معظمُهم السخيف يقضي وقته يتابع أَخبارهم متحمِّسًا لهم بغباءٍ أَو شاتِـمَهُ بحقْد وغضَب، وفي الحالتَين بات هؤُلاء مُبرمَجين (كفئْران المختبرات) لا حديثَ لهم في مجالسهم إِلَّا كلام السياسة والسياسيين.
أَكتُبُ من الرياض.
ويكون أَنني في الرياض أُتابعُ التحضيرات الأَخيرة للمسرحية الجديدة “جميل وبُثَيْنَة” يقدِّمها مسرح كركلَّا هنا هذا الأُسبوع، وأُعاينُ كيف العملُ الفني العالي الاحتراف يُنْسَجُ بعيدًا عما يجري في لبنان من حقارات سياسية، فأُقارن بين عملٍ إِبداعيٍّ مستدام يتهيَّأُ ليبقى في ذاكرة لبنان الوطن، وعملٍ سياسيٍّ عابرٍ تافهٍ زائلٍ يتهيَّأُ ليَعبُرَ ويزولَ مع كل ما يَعبُرُ ويزول في ذاكرة لبنان السُلطة. وأَيضًا وأَيضًا تزيد قناعتي بأَن العمل في الشأْن الثقافي هو التعاطي مع الجمال والرُخام والمرمر في لبنان الإِبداعي الخالد، وبأَنَّ العمل في الشأْن السياسي هو تلويثُ اليدَين بالتُراب والوُحول والنفايات في أَوساخ السلطة التي تسيِّر شُؤُون الدولة.
فيما يغبطُني أَني أَنتمي إِلى وطن المبدعين الذين رسَموا بهاء لبنان الوطن، يقزِّزُني أَن أَلتفِت فأَرى لبنان السلطة بات بين خمس دُوَل عربية مهدَّدة بالجوع (مع سوريا والسودان واليمن والصومال) تستلزم الشفَقَة والإِعانة والإِعاشة والإِسراع إِلى نجدتها (تقرير الـ”فاو” هذا الأُسبوع). فكيف لا أَلعن هذه السُلطة التي قادت دولتنا إِلى هذه الصورة البائسة الـمُشوَّهة بين الدُوَل؟
ومن جديد تزداد قناعتي أَنَّ لبناني أَنا هو الوطنُ الذي يرفعه مبدعوهُ سُطوعًا محليًّا وعالميًّا، وأَن لبنان السُلطة هو الذي يضعه سياسيُّو دولته في أَحطِّ مستوى من التعتير. لذا أَستقيل من لبنان السُلطة ودولته، وأَراني مواطنًا في لبنان الوطن الذي أَرضُه تُنبِتُ شمسَ مبدعين، ولا تتغيَّر هويتُه مهما تَحاقَر سياسيُّوه بهويات ليست منه ولا من تاريخه ولا من إِرثه الخالد.
هنري زغيب
www.facebook.com/poethenrizoghaib