كم ساذجٌ طاغيةٌ يعتقد أَنه، باغتياله ثائرًا أَو بإِخْماده ثورةً، يقضي على روحها في الشعب. ولا أُفرِّق هنا في الطاغية أَن يكون فردًا حاكمًا أَو سُلطة متحكِّمة. السذاجة في التفكير أَنَّ قتْل الجسد الفرديّ يقضي على الروح الجَماعية. ولنا في صفحات التاريخ، ووقائع الحروب والثورات، أَمثلةٌ ونماذجُ دامغةُ الإِثبات أَنَّ الاغتيال في النهاية يقتل الطاغية وحده ولا يقضي على الشعب.
في العلْم ظاهرة تُدعى “سيكولوجيا الذاكرة”، تَوسَّعَ بها الكاتب الروماني پـيار هاسْنير Hassner (1933-2018) في كتابه “انتقام الـمَشاعر” La revanche des passions عن تَـحَوُّلات العُنف وأَزمات رجل السياسة (منشورات فايار – پاريس 2015) أَظهر فيه أَن الشعوب تعتمد “تَنْقِية الذاكرة” في المواقف الصعبة والأَزمات المصيرية، وهو ما لا يحصل للطاغية (فردًا كان أَو سُلطة) فتبقى ذاكرتُه فوَّارةً قصيرةً غريزيةً انفعاليةً وتقْضي عليه، بينما تَتَنَقَّى الذاكرة الجَماعية فتشتعل حارقةً قشَّ الغرائز الطغيانية.
في السياق ذاته جاءَت معالجةُ شارلوت كاسيراغي وروبير ماجيوري في كتابهما “أَرخبيل الـمَشاعر” Archipel des passions (منشورات لو سُوْي-پاريس 2018) لتؤَكِّد أَنَّ للمَشاعر انتقامها في حالات الحب والسياسة وما إِليهما. فالانتقام ليس دومًا غريزيًّا، وقد ينفجر مُـحِقًّا في وجه مغتصبي الحقوق والإِرث والمستقبل. وأَيًّا تَكُن ردَّةُ فعل الطغيان حيال هذا الانفجار، يبقى الانتقام مُضْمِرًا لحظةً ما، حدَثًا ما، حادثةً ما، هزَّةً سياسيةً ما، لينهالَ نهرَ غضبٍ جارفًا حُكْمَ الطاغية بكل ما فيه ومَن فيه.
ما يحدث في لبنان منذ عقود، بدَأَتْ طلائعُ الخلاص منه تُشرق مع فجرٍ ربما لا يزال بعيدًا لكنه خلَع عنه كثافة الليل وأَرسلَ أَشعته الأُولى إِلى أَبناء الحرية الناهدين إِلى أَشعة الفجر. في هذه الحالة بالذات سيكون انتقامُ الـمَشاعر في لبنان صرخةَ الثوار على اسم الشهداء الذين يظنُّ الطاغية أَنه باغتيالهم اغتالَ روحَ فكْرهم وارتاحَ منها، فانفلشَ على وثير طغيانه موغلًا في التزوير السافر سياسيًّا، وتطويع الدستور مطاطيًّا، ومخالفة النظام استنسابيًا، والتحايُل على القوانين ثعبانيًّا، مؤَسْلِبًا جميعها على حجمه وأَهوائه ومصلحته وخير نسْله من بعده، مُطيحًا (فرديًّا وموَقَّتًا، وما أَغباه!) كلَّ صوت أَو قلَم أَو ثائر.
بلى: ما زال الطاغية عبر العصور أَعمى البصيرة، جاهلًا أَنه يَقتل العصفور ولا يَقتل الزقزقة، يَقطع زرَّ الورد ولا يَقطع دماغ العطر، يُغطِّي الفضاء بالغيم المسموم ولا يُغطّي الشمس، يَغتال الـمُفكِّر ولا يَغتال الفكْر، يُطفئ نار الظاهر ولا يُطفئ نار الداخل، يُسْكتُ الكاتبَ ولا يُسْكتُ الكتابة، يَبني دولة كرتونية مهما علا سورُها سينهدمُ جدارُهُ ويتقاذف الأَولادُ حجارته فرحًا.
إِن الكلمة رئةُ الثورة، وإِرادةَ الشعب رئتُها الأُخرى. ولبنان غنيٌّ بأَهل الكلمة الأَحرار، قويٌّ بإِرادة شعبه. مهما سلطتُه أَطلقَت النارَ على جسد الأَقلام لن تقوى على روح الكلمة، ومهما طغَت بإِعلاء السدّ حولها ستهدُر مياه النهر وتجرف السدّ وما عليه ومَن يحتمي خلفه، فينهار كلُّ مَن وكلُّ ما، ويَـجري النهرُ متوَّجًا بروافد الأَحرار نحو بحر الحرية.
الحجارةُ الكريمة تختلف لونًا وشكلًا لكنها لا تختلف هُويةً، بل تبقى حجارةً كريمةً متعدِّدةً في الجسَد موحَّدَةً في الروح.
وشعبُ لبنان من أَغنى شعوب الدنيا حجارةً كريمة.
****
عن دفتر داناي (1 من 10):
– ما الحب؟
– أَن نكون اثنَين جسَدًا، وَوَاحِدَيْن في حلُولية العشق التامة.
هـنـري زغـيـب