… وشو يعني “لبنان اللبناني”؟
“أَزرار” – الحلقة 1223 – “النهار” – السبت 21 أَيار 2022

تسأَلينني، يا غالية، لماذا كلَّما ذكرتُ وطني أَرفدُه بعبارة “لبنان اللبناني”، وفي سؤَالِكِ ضبابٌ من شكٍّ واستغراب.

إِليكِ بــالـ”شو يعني”:

لبنانُ اللبناني ليس “هذا البلَد” الذي تكسَّرَت مجاذيفُ دولته بسبب ربابنةٍ حقيرين ساسُوه عقودًا إِلى مصالحهم لا مصلحته، بل هو الـمَركَبُ الـمُلْهَم الذي يشقُّ بحر التاريخ صوب آفاق العالَـم بكامل جغرافياها.

لبنانُ اللبناني ليس “هذه السلطة” المركنتيلية التي تَجاذَب أَهلُها الدولة حتى شلَّعوا مفاصلَها ولم يعرفوا، بل لم يشاؤُوا، أَن يَخدموا الدولة فجعلوها في خدمتهم، واستأْثر كلٌّ بمزرعته والـمَزارعُ القبائليةُ لا تُشكِّل دولةً موحَّدة، فــ”كَــنْــتَــنُـوهَا” كانتونات طائفية ومذهبية ومناطقية وزبائنية و”كُوتا” على قياسهم، وأَطلقوا أَذنابهم وأَزلامهم يتناهشون مسعورين ضدَّ بعضهم بعضًا خدمةً نفوذَ زعيمهم ولو على حساب حياة الناس ودمائهم.

لبنانُ اللبناني ليس هذا الزبَد الذي يَرغو ضجيجًا مقرقعًا مهما تباطأَ سينتهي مع الزبَديين الزائلين، بل هو زُبدة الحضارة على أَرضنا وفي تاريخنا، فلا تؤْخَذي بزَبَد الموج الزائل بل كوني مع زُبدة اللؤْلؤ الذي يَثْبُت راسخًا ولا يزُول. 

لبنانُ اللبناني هو المدى العبقريُّ الساطع – على أَرضه الأُمّ وفي الـمَهاجر اللبنانية – أَبقى من المحليات الآنيَّة العابرة، وأَوسعَ من قوميات وأُمميات وإِيديولوجيات تنظيرية سياسية ودينية لم تُطعم رغيفًا، ولا حاكت ثوبًا، ولا أَشبعَت رضيعًا لَـم يَكفِهِ ثديُ أُمه.

لبنانُ اللبناني هو الذي يعترف العالم رسميًّا بكيانه الدبلوماسي والسياسي والإِداري، ويُقِرُّ بإِشعاع أَبنائه الواسع في جميع أَقطار الدنيا، حتى ليصبح تفصيلًا نافلًا تَـمَسُّكُ بعض أَفراده بشوفينية الأَصل الفينيقي، أَو عروبة انتمائه إِلى محيطه، أَو إِلصاقُ نُعوت به من خارج لبنانيته. الشعوب بما هي اليوم. والمهمُّ الولاءُ للبنان مع احترام الوفاء للأُصول بدون تعصُّبٍ يأْسر الشعب بإِيديولوجيات وعقائدَ تُفقِده انتماءَه الجوهري إِلى هوية لبنان الوطن. ولي من تجربتي ستَّ سنوات في الولايات المتحدة نموذجُ تشكيلاتٍ شعبية من أُصول أُوروبية أَو أَفريقية أَو آسياوية أَو عربية، تَدين موحَّدَةً بالولاء للأُمة الأَميركية والهوية الأَميركية والعلَم الأَميركي، ولا تَهْدُرُ وقتها في تَنَاتُش النقاش الإِيديولوجي التنظيري حول أُصولها وجذورها. حتى اللبنانيون الـمُجَلُّون في أَميركا لا يتنكَّرون لوفاء أَصلهم اللبناني إِنما أَيضًا لا يتنكَّرون لولاء انتمائهم الأَميركي. ولنا في جبران مثالُ الولاء لأَميركا والوفاء للبنان.

هذا هو، يا غالية، لبنانِـيَ اللبناني.    

تعرفين مقولة جبران: “لبناني لا يتَّصل ولا ينفصل، لا يتفَوَّق ولا يتَصاغر”؟ هذا هو لبنانُ اللبناني.

تَذكُرين قَولة سعيد عقل بصوت قدموس: “نحن صيدونيون، موطنُنا الأَرضُ ونأْبى، أَقلَّ، ساح الحياة”؟ هذا هو لبنانُ اللبناني.

تَسمَعين بنداء الياس أَبو شبكة: “لبنانُ أَوَّلُكَ الدُنيا وآخرُكَ الدُنيا”؟ هذا هو لبنانُ اللبناني.

تُدركين بَوَاح عُمَر فاخوري: “سَيَظَلُّ لبنان صلةَ وصْلٍ بين الشرق والغرب. له خصوصيةٌ لا يُنازعه فيها مُنازعٌ، يصُحُّ أَن أُسَمِّيها “الإِشعاع اللبناني”، يصعُبَ معها الادِّعاء بأَن لبنان منحصِرٌ ضمن حدوده الجغرافية”؟  هذا هو لبنانُ اللبناني.

إِنه لبنان الـمُتَكَوكِبُ – بفَرادةٍ في محيطه والشرق – عائلاتٍ روحيةً تعيش طوعًا فيه (لا “تتعايش” قسرًا)، وتنتمي إِلى أَرضه نعمةً (لا مُوَقَّتًا حتى تغيير هُوية الأَرض)، وتُشكِّل شعبَه الواحد الموحَّد (لا تشكيلات قبائلية متلاصقة اصطناعًا).

هو هذا، يا غالية، لبنان اللبناني، وإِلى هذا اللبنان الخالد بتاريخه وإِرثه أَنا أَنتمي. فوافيني إِليه، ولْنتخاصَر ونُعانقْ وطنًا لنا أَبديًّا، أُفْقُه يمتدُّ من جبين الحبيبة بيروت إِلى كلِّ جبينٍ نقيٍّ في آخر الدنيا.                                                     هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib