“مَزْرعوها” على قياسهم فَسَقَطُوا وأَسقَطُوها
“نقطة على الحرف”- الحلقة 1568 – “صوت كلّ لبنان” – الأَحد 15 أَيار 2022

أَعظمُ ما في هُوية الفكر أَنها روحٌ لا جسد، فمن زُيِّنَ له أَن يغتالَ الفكر باغتيال مفكِّر، لا يكونُ اغتال إِلَّا جسَدَه، أَما الروحُ فتَمضي في الزمان فوق المكان والأَشخاص.

وأَعظمُ ما في هُوية الوطن أَنها روحٌ لا جسد، فمن وَهِمَ أَن يغيِّر الهوية، لا يمكنه سوى تسميم جسد السلطة التي تدير الدولة. أَما روح الوطن فتمضي في الزمان فوق سُلطة تزول وفوق دولة تدول، لتبقى روحُ الوطن خالدةً في كل غدٍ من ذاكرة الزمان.

من هنا وجبَ التمسُّك بهوية الوطن الثابتة الخالدة عبر الزمن، وهي لا تتغيَّر بتغيُّر أَركان السُلطة الزائلين، ولا بتغيُّر شكل الدولة المتحوِّل وفْق اتجاهات ساستها في السلطة.

فليس من يستطيعُ أَن يغيِّر هوية الوطن كما وَرَدَت في لبنان جبران وسعيد عقل والأَخوين رحباني وأُنسي الحاج، ولبنان فؤَاد شهاب وميشال شيحا وشارل قُرم، ولبنان عمر فاخوري ومصطفى فروخ وخليل تقي الدين، ولبنان أَمين الريحاني وميخائيل نعيمة، ولبنان جودت حيدر وسليم حيدر، ولبنان كلِّ مبدع قدَّس لبنانَ الريادة والقيَم والحضارة وآمَنَ بالإِرث العظيم في التاريخ. هذا اللبنانُ/الوطنُ الرائد لا تُغيِّرُ هُويتَه حكومةٌ زائلةٌ تأْتي أَو حكومةٌ عابرةٌ تغيب، ولا تؤَثِّر في هُويتِه دولةٌ مفلسة أَو فاشلة أَو سيئة، لأَن لبنان الوطن ثابتٌ في جلاله وجماله أَيًّا تكن سلطَتُه ورجالها ومهما تلوَّنت دولته بين نظامٍ وآخَر.

أَرفع الوطن عن النقاش لأَنه أَعلى من أَن يطالَه أَيُّ جدَل، وأُركِّز على السلطة التي تُفسِد صورة الوطن مرحليًّا لكنها لا تغيِّر هُويتَه ولا في أَيِّ مرحلة. أُركِّز على السُلطة لأَنها يُفترَضُ أَن تُدير شؤُون المواطنين في حمى الدولة. فكيف يمكن هذه السُلطة أَن تدير الدولة، ورجالُ هذه السُلطة “مَزْرَعُوا” الدولة لهم ولنسْلهم فأَطاحوا مبدأَ “الجمهورية الديمقراطية البرلمانية” ونظامَها القائمَ على “الفصل بين السلطات وتوازُنِـها، على أَن تمارِسَ السُلطات مسؤُولياتِها تَعَاوُنًا في ما بينها”.

أَطاحوا كلَّ هذا الوارد في نظامنا الرائع فـ”مَزْرَعُوا” الدولة، وراثةً عن آبائهم وتوريثًا أَبناءَهم، كأَنَّ دولةَ لبنان مملكة أَو سلطنة أَو إِمارة أَو ولاية. أَحترم كلَّ مملكة وسلطنة وإِمارة وولاية نظامُها هكذا، لكننا نحن نظامُنا جمهوريّ ديمقراطي ولا تُمكنُ إِطاحتُه ملَكيًّا أَو سَلْطَنيًّا أَو أَميريًّا أَو ولايَتيًّا. لا يمكن ولا يجوز أَن يتجيَّش رجالُ السلطة لتحصين مقاعدهم عبْر نسلهم وأَزلامهم ومحاسيبهم وأَدواتهم في الدولة وخارج الدولة.

آباء الدستور اللبناني نحتوا نظامَه جمهوريًّا ديمقراطيًّا من أَفضل الأَنظمة، فلْيَعِ شعبُنا أَن نظامَنا، كدستورنا، مقدَّس، ولْيَمْنَعْ تمديدَ هذه السُلطة التي تعمل على تغيير هُوية الدولة إِلى ما ليست فيه كي تُبقي على ما فيها كما هو الآن، وتوغِلَ في تشويه صورة الوطن. ولكنْ… مهما سقَطَتِ السُلطةُ وأَسقطَتْ معها الدولة، لن يسقُطَ الوطن بل سيُغربلُ المسؤُولين فيه حتى لا يبقى منهم سوى مَن يستاهل الشرف الأَعلى: أَن ينتمي إِلى وطن لبنان اللبناني.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib