كتبتُ قبل فترةٍ في “النهار” أَنني يوم دخلتُ عيادة الدكتور فيليب سالم في هيوستن، ورأَيتُ على مكتبه إِناءً فيه غصنُ زيتونةٍ من بْطرَّام، وقصعةً فيها حفنةُ ترابٍ من أَرض بْطرَّام، ورأَيتُ في مكتبه لوحات زيتية لمشاهد من بْطرَّام (أَهداه إِياها صديقُه غسان تويني وحملَها هو إِليه ذات زاره يومًا)، أَيقنتُ أَنني لديه في مملكة بْطرَّام وعاصمتها هيوستن.
هذا الناسكُ اللبناني الذي يَسكُن هيوستن لأَداء رسالته الطبية، ويسكنه لبنان لأَداء رسالته الوطنية، ما قرأْتُ له في “النهار” مقالًا إِلَّا عن لبنان، ولا هاتفتُه إِلَّا وفي صوته هَتْفَةُ لبنان. وهو لم يجعل هيوستن عاصمة بْطرَّام وحسْب، بل وسَّع لبنانها إِلى ولاية تكساس. ففي حديثي معه قبل يومين، حدَّثَني عن حضور لبناني فيهما عبْر عَلَمَين عالِمَين عالَميَّين. كيف؟ قال إِن بعض شهرة هاتين المدينة والولاية مَدين لحفيدَين من لبنان: مايكل دَبَغي ومايكل حلبُوتي، وكانا صديقَيه، وكلاهما على وفاءٍ للبنان.
فمايكل دبغي (1908 – 2008) وُلد في لايك تشارلز (لويزيانا) وتخصَّص في جراحة القلب، وجاء سنة 1948 إِلى معهد بايلور للطب في هيوستن، وفيه أَثمرت تجاربُه ريادتَه في عمليات القلب المفتوح، حتى باتت هيوستن شهيرةً بها وبالعبقري ابن شاكر دبَغي الـمُهاجر اللبناني من مرجعيون.
ومايكل حلبوتي (1909 – 2004) وُلد في بومونت – تكساس وتخرَّج من “جامعة تكساس A&M للعلوم الزراعية والميكانيكية” بشهادة “الجيولوجيا والهندسة البترولية”. وبخبرة اختصاصه في التنقيب عن النفط، نجَح في حفْر أَول بئْر پترول في تكساس، فذاعت بفضله شهرةُ غنى الولاية بالنفط. وبوفائه لجامعته الأُم أَقنع صديقه الرئيس الأَميركي جورج بوش الأَب بأَن يُوْدِع فيها مكتبته الرئاسية. وفي حرَم هذه الجامعة اليوم مبنى فخم على جبينه لافتة “مركز مايكل حلبوتي للعلوم الجيولوجية”، على اسم هذا العبقري الذي هاجر والدُه من حلبا (عكار) وفتح محلًّا تجاريًّا متواضعًا في بومونت.
هنا نحن إِذًا حيال لبنان العالَمي في تكساس بين مايْكِلَيْن: الأَول مايكل دبغي من جنوب لبنان، رائد عمليات القلب المفتوح، والآخر حلبوتي من شمال لبنان، رائد التنقيب عن النفط في الولاية التي انضمَّت إِلى شقيقاتها المتحدة في الأَول من آذار 1845.
يعتزُّ فيليب سالم في حديثه إِليّ بصديقَيه الـ”مايكِلَيْن”، وكيف كان كلٌّ منهما يحدِّثه عن لبنان ويفْخر بجذوره فيه. ويردد لي البروفسور سالم المقولة الرئاسية الشهيرة: “مَن ليس له صديق لبناني، فَلْيبحثْ عنه”، كتبَها الرئيس المكسيكي أَدولفو لوپـيـز ماتيوس على الصفحة الأُولى من الكتاب الذهبي بعد افتتاحه “المركز اللبناني” في العاصمة مكسيكو مساء الأَربعاء 21 تشرين الثاني 1962 وإِزاحتِه الستارة عن اللوحة التذكارية مدشِّنًا “المركز” عشية الذكرى التاسعة عشرة لاستقلال لبنان.
بلى، هذا هو لبنان الوطن: العالَميُّ الذي تسطع شمسُ أَبنائه في كلِّ بلد من العالم.
ذاتَ يوم من 1992، وكنتُ في نيويورك رئيسَ تحرير جريدة “الهدى”، كان في مكتبي صديقٌ لبناني ودخل علينا صديقٌ مشترك، فتعانقا وقال ضيفي: “لم نلْتقِ في لبنان وها التقينا في نيويورك. يا الله كم العالم صغير”. فقاطعتُه: “أَبدًا. مش صحيح. لا تقولوا: كم العالم صغير بل قولوا كم لبنان كبيرٌ وِسْعَ العالَم. لبنان منارةٌ لا تُقاس بمساحته الضئيلة على الأَرض بل بإِشعاع نورها بعيدًا بعيدًا إِلى شساعة الأَرض ووساعة البحر. لبنان الدولة ضئيل على قدْر مساحته، لكنَّ لبنان الوطن حدودُه المدى”.
الأُمِّيُّون الذين يَسوسون دولة لبنان، هل يعرفون كم انهم لا يستاهلون لبنان الوطن؟
هـنـري زغـيـب