أَمس الجمعة، قبل 75 سنة، كان شباب زوق مكايل يحملون في النعش الأَبيض الشاعر الياس أَبو شبكة الذي انطفأَ فجرَ اليوم السابق (الإِثنين 27 كانون الثاني 1947) منقصفًا على صدر ربيعه الثالث والأَربعين.
هذا العام تستذكر الزوق قصة حب بزغَت في حناياها قبل 100 سنة (1922) لتُزهِر نبضًا ساطعًا في إِحدى روائع الشعر العربي (“غلواء”-1945).
عامئذٍ كان الفتى الياس طلَّقَ الدراسة في معهد عينطوره وبدأَ يشق طريقه في دنيا الأُدب بدءًا بترجمته “الحب الذي يَعبُر”، أُولى روايات هنري بوردو (پاريس 1901). كان جارَها في الضيعة. يَبعُد عن بيتها مسافةَ سيكارة. وهو صديق شقيقها يوسف ساروفيم، والصبية أُولغا في غاردينيا صباها، تقطف من سنواتها اثنتين وعشرين (وُلدَت سنة 1900)، وتكبَرُه بثلاث سنوات (وُلد سنة 1903).
لَفَتَتْهُ أُولغا بجمالها وخفَرها. “كنتُ أَتركُه مع أَخي وأَخرج كي أَهرب من نظراته إِليّ” (ستكتب لاحقًا في مذكراتها). سوى أَنه لم يرتدع. أَخذ يأْتيها بروايات عاطفية ويضع خطًّا أَحمر تحت عبارات الحب فيها، كي تقول لها ما لا يستطيع أَن يشافهَها به. أَخيرًا فهِمَتْ. أَخذَت تستأْنس بزياراته. وربما تنتظرها. والداها عارَضَا: هو في مطلع صباه (19 سنة) ولا عمل له. غير أَن الحب كان أَقوى. أَخيرًا رضيَ الوالدان. تمَّت الخطوبة. ابن الزوق يخطب بنت الزوق. جيران، ولا داعٍ للشرح.
مرَّت سنواتٌ على الخطيبَين. أَخذَت شهرتُه تُزهر. أَراد أَن يُؤَسْطِر حبَّه وحبيبتَه. وللأَساطير طقوس. عكَسَ أَحرف اسمها: من “أ و ل غ ا” إِلى “غ ل و ا”، وأَخذ يَذْكرها في مقالاته “خطيبتي غلواء”. طال التعثُّر المادي وطالت فترة الخطوبة. هي تنتظر وهو يحاول. “أَتعذَّب كثيرًا. أُفكر أَن أَبيع حصتي في البيت ونتزوَّج فورًا وأَذهب وإِيَّاكِ بعيدًا” (من رسالة سرِّية إِليها). وبقيَتْ تنتظر. عشرَ سنوات وهي تنتظر. ذات يوم، وكان في بيتها يكتب مقاله لـ”المعرض”، لَمَحها تبكي. ثار حبُّه في صدره. أَوقَف الكتابة. خرج إِلى الكنيسة قُبالةَ بيتها. نادى الكاهن. “تعا جَوِّزْنا يا بونا. ولا تتأَخر. بدي إِنهي مقالي”. جاء الخوري. الإِشبينان حضَرا. وأُولغا حاضرة. تمَّ العرس في بيتها، وجلس يُكمل مقاله للجريدة. بعدذاك أَرسل الخبر في بطاقة: “تكلَّلا – 10 كانون الأَول 1932”.
وبقيَت في بيتها. لم تذهب إِلى بيته الذي على مسافة أَمتار صيفية. أُمُّه، تَكَبُّرًا مُجْحفًا، لم ترضَ بها، ولا شقيقتُه ڤرجيني. “بنت ساروفيم مش من مَقامنا. نحنا بيت بُو شبكة”. ولم تسكن معه في البيت الزوجي.
حين قابلتُها للمرة الأُولى في حديث لــ”النهار” سنة 1974 باحت: “كنت أُحبُّ الياس بجنون، وأَرضى بما هو يريد”. ورضيَتْ.
يوم السبت 27 كانون الثاني 1996 مررتُ واصطحبتُها إِلى البيت الذي كان رئيس بلدية زوق مكايل نهاد نوفل “اجتَرَحَ” أُعجوبةَ إِنقاذه من الخراب. غَصَّت وأَنا أَدفع بكرسيِّها المتحرك في مدخل البيت يوم الاحتفال ببدء العمل لتحويله متحفًا. قالت لي: “هذه أَول مرة أَدخل البيت منذ زواجنا قبل 64 سنة”.
بعد حفنة أَسابيع انطفأَتْ بِحُرقة الغُصص. ويوم ودَّعناها (الإِثنين 4 آذار 1996) شيَّعناها إِلى المدفن الذي يضمُّ رفات شاعرها منذ 49 سنة.
وحتى اليوم (2022) تتردَّد في أَجواء زوق مكايل قصةُ ذاك الحب الذي بزغَ في حناياها قبل 100 سنة. العاشقان غابا، إِنما حاضرٌ في البال صدى شعره في حبيبته يُردِّد عنه في غيابه:
“غلواءُ ما أَحلى اسمَها المعطارا
صبيةٌ تغبطُها العذارى
لا يستطيعُ شاعرٌ أَن يُبدعا
قصيدةً أَجملَ منها مطْلعا”.
هـنـري زغـيـب