في المعنى القاموسي: العِدَّان هو “زمانُ الشيْء وعَهْدُهُ”.
وفي التداوُل الشعبي: “العِدَّان” هو وقتُ تَلَقِّي المياه من مصدرها. وهي كلمة لا يعرفُها عادةً أَهلُ المدن والسواحل، بل أَهلُ القُرى في الجبال والأَرياف في الأَطراف. وهي تعني انسيابَ المياه من نبْعها وتَوَزُّعَها في مجارٍ على مساحة القرية فتكون لكل مُزارعٍ قَناتُه يَفْتحها للمياه حين يَحين عِدَّانُه، أَي وقتُه، فيديرُ المياهَ إِلى بستانه أَو حقله أَو جُلُوله أَو أَثلام زرعه، مدةً معينةً محدودةً يُسرِعُ خلالها في ريِّ مزروعاته حتى إِذا انتهى عِدَّانُهُ، أَي وقتُه، تنقطع عنه المياهُ لتذهبَ إِلى مُزارع آخر في عدَّان آخر.
ويكون الناس في الجبال يَنتظرون بلهفةٍ عِدَّانَهم، يعرفون مَوَاقيتَه ومُدَّةَ دَورهم فلا يستأْثرون بالمياه أَكثرَ مما لهم كي لا يَحرموا منها جيرانهم وأَهل الضيعة. من هنا الغصَّةُ بانقطاع العِدَّان حين يتوقَّف، والفرحةُ بوُصُوله كفَرحة العرس، كما في خاتمة المسرحية الرحبانية “جسر القمر” حين تنتشر البهجة بالعِدَّان فتعلو الأَغاني: “ديرُوا المي… ديرُوا المي… خلِّي يشرب كلّ الحي… ويعلى الزرع… ويحلى الفَي”.
هذا في الــكان ما كان. واليوم؟ ماذا عن اليوم؟
اللبنانيون اليوم واقعون تحت رحمة ثلاثة عِدَّانات: عِدَّان الكهرباء، عِدَّان الـمُولِّد، عِدَّان الصهريج. أَي أَنهم سجناءُ تقْنين كهرباء الدولة، تَـمْنين صاحب الـمُولد، وتَـجْنين صاحب الصهريج. لذا أَراني أُهَرِّبُ كتاباتي تهريبًا متسارعًا ومتسرعًا مستسرعًا بين رحمة الكهرباء وزحمة الـمُولِّد وشحمة الصهريج.
ذلك أَننا اليوم، ساحلًا وجبلًا وبقاعًا ووسطًا، بتنا جميعُنا سجناء العِدَّانات. وقد يكون خللٌ مُضْنٍ حين يتعطَّل الـمُولِّد، أَو يَشحُّ مازوته، أَو يتأَخر الصهريج، فيتعطَّل موعد العِدَّان وتتخلخل مواقيتُ العمل ويتخلخل صقيع البرادات وتُنتِن الأَطعمة فيها فلا تُرمى حتى للكلاب. وقد يكون الوقت ليلًا فلا مفرَّ من إِضاءة بضع شمعات تُثير مع رجرجة شعلتها شتائمَ الناس على أَحقر مَن تولَّى المسؤُولية في هذا الزمن الوغد.
هكذا إِذًا حال اللبنانيين اليوم: وقوفٌ في الصفوف، مرةً أَمام محطة البنزين، مرةً أَمام الفرن، مرةً أَمام الصيدلية، ومرات مرات أَمام خُواء في البيت لا يَـملأُهُ إِلَّا عِدَّانُ وصول الكهرباء أَو عِدَّانُ عودة الـمُولِّد أَو عِدَّان مزاجِ سائق الصهريج. ويكتوي اللبنانيون بنيران جهنم الليرة الـمُتفتِّتة أَمامَ كلْفة الـمُولِّد وأُجرة الصهريج وأَسعار الدواء والخبز والبنزين وسائر الليستة.
ويصبرُ الشعب. يصبرُ وفي صبره يكبَرُ الغضب. كلَّ يوم يكبَرُ أَكثر. ويَفيض الغضب ثورةً أَقوى كلَّما سمع تصريحًا من أَهل الحُكْم “بيت بو سياسة” الذين ثَبُتَ أَنهم يَبيعون الناس أَوهامًا معسولةً كذَّابة.
إِلى متى يَصبرُ الشعب؟ إِلى متى تطحنُه هذه الحالة التي كورونيَّةُ السُلطة فيها مميتةٌ أَكثر من كورونيَّة “كوڤيد”.
ويظن “بيت بو سياسة” من أَهل السُلطة أَنَّ الشعب مكسورٌ وصابر. لكنهم مخطئون. الشعب صابر لكنه لن يبقى صابرًا. بل يقترب من انفجار مفاجئٍ سيُطيح كلَّ هذا الواقع المجرم ومُسَبِّبيه المجرمين. وهذا الباستيلُ الكبيرُ الذي بات شعبُ لبنان مسجونًا فيه من أَقصى النهر الكبير إِلى أَقصى الناقورة، سَيَجيْءُ يومٌ يُفاجَأُ فيه أَهل السُلطة “بيت بو سياسة” بشعب لبنان يَخلَع بوَّابة الباستيل اللبناني ويَخرُجُ إِلى دولةٍ تُؤَسِّس لبنانًا جديدًا، فيُسَجِّل التاريخً أَن سجنَ باستيل فرنسا لم يَعُدْ وحيدًا في التاريخ.
هـنـري زغـيـب