نعم… أُعلِنُ استقالتي
“أَزرار” الحلقة 1195 – “النهار” – السبت 18 أَيلول 2021

          بعد كثيرِ تعليقاتي على مثالب أَهل السُلطة منذ سنوات، شعرتُ أَنهم ماضُون في صفقاتهم وصفاقاتهم، وأَنني أُرضي قرائي نيابةً عنهم بالتعبير عن النُفور من أَهل السُلطة. سوى أَنني، بعد عشرات المقالات، وجدتُني لا أُرضي وقتي أَصرفه على هؤُلاء، وهُم عابرون متغيِّرون بتغيُّر العهود والحكومات فيما نَذَرْتُني أَساسًا لأَهل الثقافة والفكر والتراث والإِبداع في لبنان، وهُم دائمون عابرونَ العهودَ والرئاساتِ والحكومات.

          للطبقة السياسية كُتَّابُها ومُتابعُوها ومحلِّلُوها ومنتقدُوها وهُم لا يقصِّرون. ما لي إِذًا ولقطاعٍ إِذْ أَكتب فيه أُحسُّني أَشتغل بالطين مع ما في الطين من رمال متحركة وَوُحول لزجة وتُربة رخوة ورواسب وطحالب، فيما الكتابةُ الأَدبية والثقافية اشتغالٌ على مرمر ثابت لا يتغيَّر ولا يتقلَّب. إِنها مقاربةُ الورد عوَض محاربة شَوكه.

          لهذا الأَعلاه، ولكل مثيل سواه حول أَهل السُلطة، أُعلن استقالتي من متابعتهم ومشاهدتهم والتقائهم والكتابة عنهم وعن تصرُّفاتهم تجاه شعبنا الذي لا يَرون فيه سوى أَرقام مكدَّسة في پوانتاج انتخابي، ولا يخدمونه لتَرقِّي الدولة بل لتَلَقِّي مصالحهم في الدولة، فما لي ولهؤُلاء الصغار النفوس؟

          هل هذه استقالةٌ من الوطن وانفصالٌ عنه؟ أَبدًا. بالعكس. إِنها انتماءٌ أَعمقُ إِلى لبنان الوطن (حضارةً وإِرثًا وتُراثًا وفكرًا وإِبداعًا وشعراء وأُدباء وفنانين)، واستقالةٌ نهائية من لبنان الدولة ومُتوَلِّيها، ومن لبنان السُلطة وأَهلها. معظمُهم ليس أَهلًا لصداقة ولا لمصافحة، فيما يُشَرِّفني أَن أَبُوسَ صخرةً في بعلبك، أَو أَلمسَ حجَرًا في صور، أَو أَجلسَ إِلى مَعْلمٍ تاريخي في صيدا، أَو أَحجَّ إِلى ناووسٍ في جبيل، أَو أَنحني لنجمةِ بيروت، وأَن أَكتبَ عن تراثٍ لبناني أَو مبدعٍ لبناني (حالي أَو غائب) أَنْتَجَ في أَيِّ دُربةٍ أَدبية أَو فكرية أَو فنية عالية، فإِنما مجدُ لبنان في الشرق وفي العالم لم يَصنَعه رؤَساء عابرون ولا وزراء زائلون ولا نواب زائفون ولا سياسيون راهنون (مهما تَسَلْحفَت زعاماتُهم). مجدُ لبنان صنَعَه عباقرةٌ مبدعون، هنا وفي العالم، بهم يُعرَفُ لبنان في العالم وفي سجِلّ التاريخ. إِلى هؤُلاء أَنا أَنتمي، وينتمي مثْلي لبنانيون على أَرض لبنان مؤْمنون به وطنَ الفكر والحضارة، ولبنانيون في العالم متعلِّقون بلبنان وطن الحنين أَرضًا وقِيَمًا حضاريةً لا بدولةِ لبنان التي لا تَخدم لبنان الوطن، ولا بسُلطةٍ فيه شوَّهَت صورةَ دولةٍ بَنَاها رجالٌ مخْلصون صرَفوا عمرهم في خدمتها غيريًّا ولم يوظِّفوا أَحدًا منها في خدمتهم شخصيًّا.

          هكذا سأُكمل رسالتي ككاتب: منصرفًا إِلى وطني دون دولته وسُلطته اللتَين هشَّمَتَا صورتَه البهية، وطني الرائد تاريخًا راسخًا وحضارةً ناصعة وآثارًا ساطعة وأَعلامًا خالدين، وطني طليعة محيطه جامعةً ومسرحًا ومطبعةً وصحافةً وأَدبًا وفنونًا وإِبداعًا خلَّاقًا في غير حقل معرفيّ، وطني الذي يَجمُل بي أَن أُكرِّس له وقتي وجهدي وأَبحاثي وكتاباتي وكتُبي لأُبرزَ عطاياه فأُذَكِّرَ بها أَترابي وأَلْفِتَ إِليها أَبناءَهُم وأَحفادَهُم كي يَعرفوا أَنهم أَبناء وطن رائد طليعي فلا يظنُّوا أَن لبنان يختصرُه هذا الطقم الذي يَحكُم دولتَه ويتحكَّم بسُلطته.

          عن هيغل أَنْ “يجيْء يومٌ تنتهي فيه الثرثرة فلا يبقى سوى الروح”. والروح هنا هي الحضارة والفكر والتراث والإِرث الإِبداعي الذي يسِمُ هويةَ الأُمم على جبين الزمان.

          هو هذا وطني الذي أَسجُد لعطاياه وأَستقيلُ من اهتمامي بنوافله السياسية. فمَن مِن قرَّائي خاب انتظارُه إِيايَ منتقدًا مثالب الدولة والسلطة، له طريقٌ آخرُ غيرُ نُصُوصي. ومَن يبقى على انتظاري أُنقِّب عن كنوز لبنان الوطن، له قلُوبُ قادريها، وله عرشُهُ في بالي… وفي قلبي.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib