أَديب كبير، ، وراءَ البحار، يتابعني من “أَزرار” كلَّ سبت في “النهار”، كتبَ إِليَّ هذا الأُسبوع مُثْنيًا بدايةً على “كلّ ما تكتبُه عن رجال السياسة والسُلطة في لبنان”، ومُكْملًا: “تُوحي في كتابتك بأَنَّ مُجرّدَ تغيير هؤُلاء الرجال بآخرين أَمرٌ يُحقِّق الخلاص أَو قد يُحَقِّقه”.
مع احترامي “فكْر” الصديق الكبير، لا أَطرحُني كاتبًا سياسيًّا ولا أَطمحُ أَن أَكونَه. أَنا أَشتغل في الثوابت الوطنية لا في المتغيِّرات الآنيَّة، وأَرفع صوتَ قلمي كاشفًا مثالبَ مَن أَوصلوا دولتنا إِلى انهيارها.
وهو، مفكِّرًا، رأَى أَن كلامي “حجابٌ على النُواة الحقيقيّة لِـمَسكوتٍ عنه، هي أَنّ الاكتفاء بتغيير رجال السياسة والسُلطة بآخَرين لا يغيِّر الواقع في جوهره وإِن غيَّرَه في مَظهره”. وهذا صحيح، لكنه أَردف أَن “السُلطة بُنْية إِنسانيّة اجتماعيّة ثقافيّة وليست تَقاسُمًا مَذهَبِيًّا تَوارُثِيًّا. والتغيير في لبنان لن يُعطِي معناه الحقيقيّ إِلَّا بتغيير بُنْية لن تتغيَّر إِلَّا بتغيير قواعدها وأُصولها فتصبح مَدَنيةً بالمعنى الإِنسانيّ حقوقًا وواجباتٍ وعلاقات”.
يا صديقي الرائي إِلينا من وراء البحار: في كلامكَ على البْنْيَة المدنية التامة والدولة العلمانية الكاملة خارجَ الطوائف والمذاهب، أَنت تبشِّر مؤْمنًا. لكنَّ قلمي الآن لا يُنَظِّر في البُنْية وكيف يجب أَن تكون، بل همّي خَضُّ شعبنا ليخرج من منطق القطيع وانقياد غرائزيٍّ إِلى دينوصورات الفاسدين في السلطة اللبنانية هجّروا نُخَبنا وسبَّبوا إِشاحة العَرَب والغَرْب عنا. والبداية عندئذٍ: رسْمُ ملامح جديدة لوطنٍ خارجٍ من كهوف العالم الثالث وطغيان الإِيديولوجيات السياسية والدينية فيها. هكذا يبدأُ التغيير التدريجيّ الذي امتدَّ، في فرنسا مثالًا، عشرات السنين بعد الثورة الفرنسية حتى تحقَّق جمهورياتٍ مدنيةً علمانيةً من أُولاها حتى خامستها.
كلُّ هذا أَعيه وأَعرف ما يلزمه من أَمد مستطيل كي يتحقق. إِنما فَلْنبْدأْ من حيث ينطفئ الحريق. بيتنا اليوم يحترق، ودَوري كمثقَّف أَن يثور شعبي على مَن أَشعل الحريق لا أَن يبحث بين نيران البيت النيرونية عن قانونٍ جديد لحفْظه وبُنْيةٍ جديدة لأُسُسه ونظامٍ جديد لحُكْمه ودستورٍ جديد لديمومته. كلُّ هذا سيأْتي، إِنما أَولًا فَلْنُطْفئِ الحريق. الباقي يتولَّاه متخصصون سياسيًّا ودستوريًّا وسوسيولوجيًّا يخططون لدولة مدنية علمانية خارج امتيازات الطوائف ونرجسية الحكام وهيمنة العائلات السياسية وإِيديولوجيات أَحزاب عائلية أَو مذهبية أَو أُوتوقراطية أَو عقائدية محلية أَو مستوردة.
قبل تغيير النظام والدستور والبُنْية، فلْيُطبَّق سليمًا مضمونُها حتى يَبَان الخلل فيها، وعندها نبدأُ بالتغيير إِنما يقينًا لا مع هذه الطبقة السياسية النَتِنَة من رأْسها حتى أَخمص أَزلامها. فَلْنبْدأْ بتحطيم الأَصنام وخلْع مكرَّسي الأَمر الواقع ثم نُكْمل تباعًا، جيلًا بعد جيل، حتى بلُوغ لبنان أَن يكون، بتعدُّديته، نموذجًا مُغايرًا عن محيطه المطمور بتوتاليتاريات دينية ومذهبية وطائفية تتحكَّم بسياسته وسياسييه.
المطلوب أَولًا: الخروج، ببُطءٍ وصبْر، من محيط “القرون الوسطى” حتى ننسج لأَبنائنا وأَحفادنا شمس النهضة.
أَما أَن ترى مقالاتي الحالية باقيةً “في دائرة البيان أَو البلاغة الأَدبيّة”، فهذه طبيعةُ كتابتي المصقولة، وهي من ضرورات الإِيصال التي لا تبلُغ مُتَلقِّيها بأُسلوبٍ رخْوٍ ومائع. البلاغةُ المشغولة، وأَنتَ فيها رائد، أَفعلُ في جمهورها من نثْر سفسطائي مسطَّح ثرثار. فرُبّ نص لجبران أَو قصيدة للأَخوين رحباني بصوت الخالدة فيروز، أَفعلُ في شعبنا من أَيِّ خطابٍ سياسيٍّ مهما “تَـهَتْلَرَ” صاحبُه.
عسى يجيْءُ يوم يقرأُ فيه أَحفادُك وأَحفادي ما نكتُبه اليوم بـ”بلاغة أَدبية” فيدركون دور الأَدب في بناء الأَوطان.
هـنـري زغـيـب