بعد محاضرة كمال جنبلاط سنة 1946 (“أَزرار” 1180) وكتاب عُمَر فاخوري “الحقيقة اللبنانية” سنة 1945 (“أَزرار 1181”)، أَختُمُ هذه الثلاثية بمحاضرة المؤَرِّخ البريطاني أَرنولد تُوْيْنْبي “لبنان كلمة التاريخ” (“الندوة اللبنانية” – الأَربعاء 8 أَيار 1957).
من عنوانها بَدَأَ: “لبنان كلمة التاريخ”! أَيُّ مجدٍ لوطننا مِمَّن كلمتُه مرجعٌ لا يُرَدّ! هكذا لبنانُ إِذًا: الكلمة التي قالها التاريخ، والتاريخ شاهدُ ما كان في القَبل، وما في البَعْد يبقى. فما أَصغرَ ما يجري اليوم في هذه الدولة التي تدُول، وما أَحقرَ ما يقترفه أَصنامُ سلطتها التي تزول، إِزاء عظمة لبنان الوطن الذي قاله التاريخ كلمةً لا تزول.
أَكمَلَ تُوْيْنْبي: “حديثي عن لبنان يأْخذُني في رحلة استعادية كاملة إِلى التاريخ منذ فجر الحضارة”. وشَرَح: “لبنان بالمعنى الجغرافي ليس مجرَّد مصطلح تاريخي بل تعبيرٌ لموقع طبيعي: معالمه الطبيعية أَساسُ ثروته البشرية”. وقالها باللهجة الوُثقى: “لبنان في محيطه بلدٌ استثنائيٌّ يكاد يكون أُعجوبيًّا”. واستَشْهَد: “ما زال بي شعورٌ خاصٌّ أَحسستُ به عند المسافة الأَخيرة لرحلتي من كَراتْشي إِلى بيروت، لدى رؤْيتي من الطائرة ثلوجَ جبال لبنان الشرقية كأَنها نشَبَتْ فجأَةً من الصحراء”.
وواصل مطالعتَه الموثَّقة: “غابات لبنان كانت مرنى كبار البُناة في العالم القديم”، ومن طبيعة لبنان قارَبَ التاريخ، وهو اختصاصُه: “لكنَّ لبنان أَيضًا كلمةُ التاريخ في معناها الإِنساني. إِنه حصيلةُ ما أَنشأَه أَبناؤُه عبر العصور. لذا شكَّل تاريخُ لبنان البشريُّ وحدةً اجتماعية وثقافية منذ جُذُور الحضارة”.
وقال تُويْنْبي أَكثر: “الشاعر الإِنكليزي وليم وُوردْسْوُورث، في احتفائه بالمقاومة الأُوروپية ضد الهيمنة الناپوليونية، تغنَّى بأَن الحرية تُطلَب من صوتين: صوت الجبل وصوت البحر. وفي لبنان يتَّحدُ الصوتان: تاريخُ لبنان تاريخُ الجبليين والبحارة معًا. هكذا أَخلُصُ إِلى القول إِننا، بتأْكيدنا على وحدة التاريخ، نبقى أُمناء للحقيقة التاريخية في عناوينها الكبرى”.
ورأَى تُوْيْنْبي أَنْ “ليس لبنانُ قوةً عسكريةً إِنما يمكنه أَن يكون قوةً اقتصاديةً. فأَمبراطوريةُ لبنان الاقتصاديةُ المزدوجة اليومَ ظاهرةٌ استثنائية: في معظم حقبات التاريخ امتدَّت التجارة اللبنانية غربًا وبلغَت ضفاف الأَطلسي”، ويوضح: “في القرن الثامن عشر بات لبنان ملجأَ أَقليات لم تعرف الحكومة المركزية العثمانية أَن تحافظ عليها، وكانت أَقلياتٍ نخبويةً أَعطت لبنان أُناسًا جِدِّيِّين ناشطين أَذكياء”.
بعد؟ ليته كان لي أَستشهدُ بعدُ بمقاطع من تلك المحاضرة قبل 64 سنة[1]، بصوتٍ طالعٍ من مؤَرخ طَلَاع يقول عن لبنان الوطن ما يقوله مؤْمنون بعظمة لبنان اللبناني. فَلْنتَّعظْ ولا نيأْسْ ولا نُحبَطْ، ولنؤْمِنْ بأَن لبنانَ الوطن أَعظمُ وأَقوى وأَمتنُ من دولةٍ انهارت مؤَسساتها بفساد سُلطتها الكرتونية.
إِلى هذا الـوطن ننتمي: لبنان اللبناني. ولا أَسَفَ أَن تنهارَ سلطتُه بأَصنامِها الفاسدين، ولْنُنْشِئْ دولةً نقيَّةً من لبنانيين، هنا وفي العالم، أَنقياءَ يُعيدون بناءَ دولة جديدة يَخدمونها ولا يجعلونها والشعبَ في خدمة مصالحهم الشخصية الانتخابية.
وما سوى هكذا نُنْقِذُ لبنان، ونستحقُّه وطنًا غيرَ عادي.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib
[1] سأَنشُرُها كاملةً في العدد الجديد (تموز) من “مرايا التراث” مجلة “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU.