حدثْتُكُم في حلقة الأَحد الماضي عن السياسيين رُكَّابِ الصف الأَوَّل، يحضرون هُم بحذافيرهم ندواتٍ ثقافيةً أَو محاضراتٍ فكريةً، أَو ينتدبُون ممثِّلين عنهم يتصدَّرون تلقائيًّا مقاعد الصف الأَوَّل. وقلتُ لكم كيف أَلغيتُ دعوة هؤُلاء وأُولئك من لائحة المدعوين.
اليوم أُحدِّثُكم عن ظاهرة شبيهةٍ هي وضعُ نشاط ثقافي فكري تحت رعاية سياسيٍّ من الصف الأَول أَو الثاني أَو حتى الثالث، طمَعًا باستقطاب الصحافة والإِعلام إِلى حدَثٍ قلَّما تهتم له أَجهزة الصحافة والإِعلام إِن لم يكن تحت رعاية سياسية.
قبل ثلاث سنوات، كنتُ إِلى التحضير لمؤتمر دولي عن جبران تعاوُنًا مع كرسي جبران في جامعة ميريلند الأَميركية ولجنة جبران الوطنية، لمناسبة المئوية الأُولى لصدور أَول كتبه الإِنكليزية “المجنون” (1918)، ومناسبة الذكرى 135 لولادة جبران، والذكرى السادسة عشرة لتأْسيس مركز التراث اللبناني في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU.
قبيل الموعد اتصل بي أَحدُهم مستفسرًا ثم مستغربًا ثم مستهجنًا حصولَ هذا المؤْتمر بمناسباته الثلاث، ولا يكون تحت رعاية رسمية.
قالها وشدَّد بكل مفاصل صوته على كلمة “رعاية رسمية”.
سوى أَنني حَدَجْتُهُ بصوت غير مشدود المفاصل، وبرَشْق من الأَجوبة مختَصَرُها أَنْ مَن هو هذا المسؤُول الرسمي الذي يستحقُّ أَن أُحني اسم جبران في الدعوة كي أُعلي فيها اسمَ هذا “المسؤُول الرسمي”؟ ومَن يستحقُّ أَن يتصدَّر اسمُه قبل اسم جبران طالما في البروتوكول الرسمي يجب أَن يبدأَ نصُّ الدعوة أَولًا بعبارة “تحت رعاية” صاحب الفخامة أَو صاحب المعالي أَو صاحب أَيِّ لقبٍ آخَر، ثم يأْتي تحته اسمُ جبران الذي اسمُه أَعلى من جميع الأَسماء في الدنيا، فكيف أَضع على جبين جبران اسمَ سياسيٍّ أَيًّا يكُن؟
ما ارعَوَى ذاك الـ”أَحدُهُم”، لأَنه من مسَّاحي الجوخ بيَّاضي الوجوه مُبَكِّلي الجاكيت أَمام المقامات السياسية.
غير أَن هذا الـ”أَحدَهُم” نموذجٌ سيّئٌ لهؤُلاء الْـمـا زالوا مأْخوذين هيبةً وانبهارًا بأَسماء السياسيين ينحنون أَمامهم بكل ذُلّ وانكسار.
وإِنها ظاهرة كانت عامة قبل الكورونا و17 تشرين. وأَظنُّها، بل أَتمنَّاها، لن تعودَ حين تعودُ الحياة الثقافية في لبنان إِلى إِيقاعها العادي.
فمَن هو المسؤُول السياسي الذي يستحقُّ أَن يكون تحت رعايته حدَثٌ أَدبي أَو فني أَو فكري أَو تراثي؟
ثم… ما هي مواهبُه الثقافية كي يكون “نجْم الحضور” في جمهور فكري ثقافي راقٍ عالٍ نخبوي؟
ثم… ما مواهبُ ممثِّله حين لا يأْتي هو بحذافيره إِلى قاعة المحاضرة أَو المؤتمر؟
ثم… ماذا يُضيف على قيمة الحدَث الثقافي الراقي هذا الْـ”تحت رعايته” يُقام الحدَث؟
ثم… ماذا يَحدث حين تَغيب جميع الرعايات السياسية عن الأَحداث الثقافية، وتخلو التغطيات الصحافية والإِعلامية من تَصَدُّر “صاحب الرعاية” خبرَ الحدَث وأَعلامِه الساطعين فيما “صاحب الرعاية” من العابرين في زمن سياسي عابر؟
لبنانُ الثقافة، لبنانُ الفكْر، لبنانُ الإِبداع، يومَ يعود إِلى لبنان قريبًا، أَول ما يجب أَن يغيب عنه: هذا الانخراع بــ”رعاية رسمية”، خصوصًا بعدما سقطَت عن وجوه السياسيين أَقنعتُهم الْكانت تغشُّ المواطنين بِـهَيْبَةٍ ثَبُتَت كرتونيَّتُها حيال ما ثبُتَ أَنَّ قيادتَهم لبنان جعلَتْهُ دولةً فاشلةً تُديره سلطة لا تستحقُّ شرفَ أَن تَحكُم لبنان ولا شرفَ أَن يكون “تحت رعاية” أَيٍّ من سياسيِّيها حدَثٌ ثقافي من لبنان الإِبداع.
هـنـري زغـيـب