دأَبْتُ منذ مطلع إِدارتي “مركزَ التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركيةLAU أَن أَعقِد سلسلةً من المحاضرات الشهرية مع نخبة مميَّزة من المحاضرين والأَعلام المكرَّسين في موضوع التراث، أَمام جمهور دأَبَ هو الآخَرُ اعتيادًا على حضور هذه المحاضرات. وتخيَّلْتُ من البداية أَن أُعطي تلك المحاضرات طابعًا رسميًّا في هذه الجامعة الكبرى، فكنتُ أُوجِّه لكل محاضرة دعوةً إِلى رئيس الجمهورية ورئيس الپرلمان ورئيس الحكومة ووزير الثقافة ووزير التربية، وكانوا غالبًا يرسلون ممثِّلين عنهم كما يقتضي پروتوكول هذا النوع من النشاط الثقافي.
وكنتُ طبعًا أَدعو الزملاء الصحافيين لتغطية الندوة أَو المحاضرة أَو الحدَث في حَرَم الجامعة. وكان طبيعيًّا أَن أَحجُز، في الصف الأول، مقاعدَ ممثلي السياسيين، وأَن أَفتتحَ الأُمسية بترحيب پروتوكولي تلقائي بالسياسيين اسمًا اسمًا وأُرفِقَ كلَّ اسم منهم بحضرة ممثِّله بيننا في هذا العشية، فيغتبطُ السيِّدُ ممثِّلُهُ وينقل تحيتي إِلى سيِّده. وكانت تلك الدعوات، كما تبيَّن لي مرارًا، حافز الصحافة والإِعلام لإِرسال مندوبين وكاميرات التلڤزيون، وإِلَّا فلا يأْتي مندوب ولا تحضَر كاميرا إِلى نشاطٍ ثقافيٍّ لا يكون فيه أَحد من “رُكَّاب الصف الأَول”.
وفي اليوم التالي كلَّ محاضرة، تصلني إِلى مكتبي في الجامعة مقتطفات صحافية أَقرأُ فيها عن المحاضرة تغطيةً صحافيةً تتَّسع “أُوتوستراديًّا” لذكْر السياسيين اسمًا اسمًا ولممثِّليهم اسمًا اسمًا، مع ذكْر عنوان المحاضرة ومكانها واسم المحاضر. ونادرًا ما يبقى “زاروب” في الخبر لكتابة ملخَّص عن مضمون المحاضرة. وأَذكُر اتِّصالًا من صحافي مرَّةً قبل المحاضرة بدقائق معتذرًا لعدم الحضور سائلًا فقط عن الممثِّلين الرسميين غيرَ آبهٍ لموضوع المحاضرة ومضمونها.
بعد بضعٍ من السنوات، أَوقفْتُ دعوة السياسيين فلم يَعُد في القاعة ممثِّلون إِياهم، وأَخذَت التغطية الصحافية تُكَرِّسُ المساحة للمحاضرة وموضوعِها وملخَّصٍ عنها.
هذه الظاهرة، عند كلِّ نشاط ثقافي، ما زلْت أُلاحظُها في تغطياتٍ صحافيةٍ تتسع “أُوتوستراديًّا” للسياسيين الحاضرين وممثلي السياسيين جميعًا بالأَسماء والتفاصيل، فلا يبقى للحدَث الثقافي، إِذا بقي، سوى حيِّزٍ ضئيلٍ لا يفي تعبَ صاحبِ الحدَث وجُهدَه وضَناه لإِنجاز الحدَث، فيتركز الخبَر على سياسيين أَو ممثلي سياسين لا يكون لهم أَيُّ فضْل في الحدث سوى حضورهم الكريم وابتساماتهم الحيادية أَمام الكاميرات، مصنَّمين طبعًا في الصف الأَوَّل من مقدِّمة الحضور.
ولا يزال النشاط الثقافي، غالبًا، يفتقد تغطيةً صحافيةً وإِعلاميةً تركِّزُ على أَهمية النشاط في ذاته، وعلى تعَب أَصحاب النشاط وجُهدهم وضَناهم وأَهمية الحدث الثقافي، ولا تزال كاميرات الصحف والتلڤزيون تتَّجه، فورًا وفقط، إِلى وُجُوه باردة مصطنَعَة مُصَنَّمة لِـجَماعة… “رُكَّاب الصَفِّ الأَوَّل”.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib