فيما يشهد العالم انهيارَ الدولة وانحلالَ مؤَسساتها وجُرمَ سلطتها الفاقعَ اللامبالاة، أَظلُّ أَرنو إِلى اللامُتَغيِّر في الثبات: لبنان الوطن. فالدولة فروعٌ تتغيَّر، والسلطة أَغصان تتكسَّر، لكنَّ جذور الوطن ثابتة، وتاريخُهُ سيَلعَنُ كلَّ من خلخل الدولة وفتَّت سلطتها.
لماذا الوطن ثابت؟ لأَن الجذورَ راسخةٌ في الثبات، ولو تفسَّخت الفروع وتقصَّفت الأَغصان اليابسة.
المعيار؟ أَن يعي البُناةُ عظمةَ لبنان الإِرث فينسُجُوا له بقاءً زاهيًا بين الأُمم، ولو تغيَّرَت صورةُ الدولة أَو تَشَوَّهَ وجهُ السُلطة.
أَمامي العدد الأَول (31/3/1947) من “محاضرات الندوة” – مشروع ميشال أَسمر الحضاري – وفيه أَول محاضرة على منبر “الندوة” في 18/11/1946، أَلقاها “نائبُ جبل لبنان وزيرُ الاقتصاد الوطني والزراعة والشُؤُون الاجتماعية” كمال جنبلاط. موضوعُها “رسالتي كَنَائب” وعنوانُها الجانبي “لا سياسة في جمهوريتي”، بدأَها الـمُحاضر بقوله: “لو كنتُ حرًّا مختارًا لَتَرَكْتُ السياسة جانبًا وَلَنَبَذْتُها حتى من تفكيري، ولاخترتُ موضوعًا علْميًّا شيِّقًا… ولكتبتُ على باب هذه الندوة: “لا يُقْبَلُ السياسيون في هذه الندوة”.
ها هو إِذًا، ولو انه نائبٌ في دولة لبنان، يميِّز بين رجل السياسة الآنيّة المتغيرة، ورجل الدولة الذي يَعي إِرث الوطن الثابت على الأَيام فيعمل له كي يُبْقِي أَثره نابضًا للأَجيال.
يعي. الأَهم في رجل الدولة أَن “يعي” عظمةَ الوطن الذي هو عامل في خدمة دولته لا جاعلًا الدولة في خدمة مآربه الشخصية.
من هذا الوعي قولُه في تلك المحاضرة: “النائب، قبل أَن يكون محامي مصالح أَو زعيمَ فكرة أَو ممثلَ حزب، هو باني ديمقراطية ومؤَسسُ دولة. وعلى الـمَثَل الذي يوحيه وروحيةٍ يتمتع بها، يترتَّب نجاح أَو فسادُ النظام الپرلماني والنظام الديمقراطي في بلاده”.
على النائب أَن يعي حضورَ وطنه في التاريخ لا تاريخَ دولته العابر. من هنا وعيُهُ أَنَّ: “هذا الشاطئَ الذهبي الجميل شاهَدَ منذ آلاف السنين نشوءَ أَول دولة مدنية، وقيامَ أَول أَمبراطورية بَحرية، قبل أَن يشعَّ نورُ أَثينا ويسيطرَ العدلُ الروماني على العالم القديم”.
حين النائب يعي إِرثَ وطنه يتهيَّبُ التفريط بدولته، كقول جنبلاط يومئذٍ: “هذا البحر كان لبنانيًّا حقبة طويلة من الزمن في هذه البقعة النادرة من العالم حيث يلتقي ويتفاهَمُ البحر والجبل، في هذا الوطن ذي الحضارة الإِنسانية، المتفتِّح لجميع التيارات الفكرية العالمية”.
هكذا الـمُشرّع: “يعي” أَهمية لبنان ويعمل في خدمة دولته وسلطته لنشْر عظمة “هذا البلد القديم الجديد الذي أَعطى العالم قيَمًا وأَفكارًا ورجالًا ونُظُمًا وتأَلُّقًا”. ولذا خَتَم النائب جنبلاط حديثَه عن لبنان بكل شَمَم لبناني: “هكذا يصحُّ لنا أَن نتفاءَل وأَن يَطيب فأْلُنا، وأَن نأْمل ونُوطِّد الأَمل، وأَن نُؤْمنَ وأَن يَعْمُرَ إِيماننا بقيام ديمقراطية بنَّاءَة خلَّاقة تكون مثَلًا للشرق والغرب، ويكون لبنان – كما نريده – مركزَ تطوُّرٍ وتوجيهٍ وهَديٍ في العالم العربي والعالم المشرقي فيصح أَن نقول إِننا هنا في لبنان لا يسيطر علينا إِلَّا حُكْم القانون”.
قبل 75 سنة كان هذا الكلام، وكلَّ يوم يجب أَن يقتدي به ويَنْشُرَه أَيُّ سياسيٍّ في لبنان، لأَن الوطن لا يترسَّخ إِلَّا في وعي قادتِه عظمتَه الخالدة.
(المقال المقبل: عمر فاخوري).
هـنـري زغـيـب