يرحلون…
يحملون يأْسهُم والغضَب، ويرحلون…
إِلى أَين؟ لا إِلى مجهول يقصدون بل إِلى جامعة تنتظرهم فاتحةً لهم قاعاتها وبرامجها ومركزًا يليق بنبوغهم اللبناني، إِلى مستشفى ينتظرهم فاتحًا لهم مختبراته وتسهيلاته ومركزًا يليق بنبوغهم اللبناني، إِلى مؤَسسات كبرى تنتظرهم فاتحةً لهم وظائفَ ومسؤُولياتٍ عليا ومركزًا يليق بنبوغهم اللبناني.
يرحلون…
وفيما تُقلع بهم الطائرة، يَنثُرون من طاقتها اثنتَين: نِظرةَ حنان لمغادرتهم أَهلًا وأَحبَّةً وذكريات، ونِظرةَ لعنة على مَن ساسوا البلاد إِلى هاويةٍ من الذل والفقر والبؤْس لم تبلغها بلاد في مجاهل الدنيا.
وفيما يبلُغون وُجْهتهم ويبدأُون بإِثبات حضورهم اللبناني الساطع، يُضمرون أَلَّا ينسَوا لبنانهم الوطن، بل أَن ينسَوا هجرتهم وهجرانهم وتهجيرهم بسبب سلطةٍ بين أَيدي نيرونيين لم يرتقوا إِلى شرف قيادة الدولة فـــ”قَوَّدُوها” على قياسهم: مزرعةً لهم، اسطبلًا لنسْلهم، عشيرةً لأَزلامهم ومحاسيبهم وأَغنامهم، وجعلوا الشعب في خدمتهم عوض أَن يكونوا هم في خدمة الشعب.
يرحلون…
وفيما يعيشُون حيثما يسكنون، يشعرون أَنهم سواسية حقوقًا وواجباتٍ مع أَهل بلادٍ ليس فيها مَن يسأَلهم عن طائفتهم أَو دينهم أَو انتمائهم، وأَنهم، كأَهل البلاد، يخضعون للنظام، يحترمون القانون، ينضوون في التنظيم، يتَّبعون النُظُم، فالدستور، حيثُما هم، ليس اصطلاحيًا ولا استنسابيًّا يغتصبه رئيس أَو وزير أَو سياسي نافذٌ لينفِّذ مأْربًا شخصيًّا.
وفيما يعملون حيثما يستقرُّون، تنهمل عليهم تنويهات من رؤَسائهم ومؤَسساتهم، فيُشيحون عن استذكار سنواتٍ من الضنى في لبنانهم لم يتلقَّوا خلالها فرصةَ تقدير لأَنهم لا ينتمون إِلى حزب أَو تكتُّل أَو تيار، ولأَن لهم كرامةً تأْبَى عليهم أَن يستزلموا أَو يستسلموا لسياسي من أَجل وظيفة أَو منصب لا يبلغه إِلَّا مَن كان من القطيع، وليس في نية أَحد منهم أَن يكون حبَّةً في مسبحة زعيم، أَو حطبة في موقد قائد، أَو فردًا في قطيع، بعدما بات لبنان – في معظم أَحواله – قطعانًا وراء سياسيٍّ يخطِّط لمصلحة انتخاباته المقبلة لا مصلحة الأَجيال المقبلة، ويحوِّل الدولة سلطة يمارس عبْرها كلَّ دجل وموبقة للحفاظ على زعامته الشعبية، عوض أَن يكون رجل دولة بأَعلى ما الدولةُ المنظَّمَة راقيةٌ ساميةٌ حاميةٌ أَبناءَها من كل شر، فيما سياسيُّو البلاد هُم سبب الشر والبلاء وتهجير الأَدمغة اللبنانية إِلى بقاع الدنيا الوسيعة.
يرحلون…
وغدًا، كما اعتدنا مع أَسلافهم، يوم ينجح منهم نابغ في حقل علْمي، مبدع في حقل أَدبي أَو فني، خلَّاق في حقل عَمَلي أَو مالي أَو اقتصادي، لا يجد من بلاده لتهنئة هذا الـ”من أَصل لبناني” سوى مسؤُول تافهٍ لا يستاهل حتى إِرسالَ التهنئة.
يرحلون… يرحلون… وفي قلوبنا كما في قلوبهم حنينُ أَن يعودوا ذاتَ يستطيعون، إِنما إِلى لبنان الوطن لا إِلى هذه السلطة التي لم تعرف، ولن، أَن ترتقي إِلى شرف لبنان الدولة.
هـنـري زغـيـب