في علم اللغة أَنَّ مَن ينطِق بها الْتِواءً أَو خطأً، يعاني في عقله الْتِواءً، أَو جهلًا في معرفته. فاللغةُ بنتُ العقل، والعقلُ مقياسٌ ومعيار.
ما تعانيه العربيةُ اليوم من أَهلها، لا معيارَ له ولا مقياس، كما نعاين ونعاني أَخيرًا مع جائحة “كورونا” التي تجتاح شعبَنا ولغتَنا بمفرداتٍ مغلوطةٍ تَزيد الجهلَ جهلًا والعقلَ التواءً مُعيبًا يَجهَل القياسَ والمثال.
هنا نماذجُ من الأَخطاء ذاتِ العَلاقة راهنًا بقاموس “كورونا”.
مع بدْء التلقيح يتعثر الإِعلاميون والسياسيون فيتبارَوْن في التعثُّر بين “لُقاح” و”لِقاح”، والأَصح” “لَقَاح”، على قياس “نَجَحَ: نجَاح”.
ومن الأَخطاء المتداوَلَة: “وفِيَّات” كأَنَّ مُفردَها “وفيَّة” (صفة امرأَة وفيَّة أَو بادرة وفيَّة) بينما المفرد “وفاة” على مثال: “فَتَاة فَتَيات”، فالأَصح: “وفَاة وَفَيَات”.
خطأٌ آخَر في التَداوُل: وزراء “أَكفَّاء” ويجعلون مُفردَها “كفُؤ” أَو “كَفُوء” وكلاهما خطأ، لأَن مُفردَها “كَفِيّ” على مثال “نَقِيّ أَنقياء”، “تَقِي أَتْقياء”، “نَبي أَنبياء”، فالأَصح: “كَفِيّ أَكْفِياء”.
خطأٌ آخَر: “المناعة المجتمعية”، وهنا لا علاقة للمجتمع ولا للاجتماعيات، بل الأَصح: “مناعة جَـمَاعية” أَي “مناعة الجميع”.
خطأٌ مماثل: “الـمُستشفى الحكومية”، وهذا خطَأ لأَن “الـمُستشفى” اسم مكان مذكَّر، على قياس “مُستوصَف” وهو مذكَّر، إِذًا الأَصح: “مُستشفى حكومي”.
خطأٌ سائرٌ بعد: على “قدَر” المسؤُولية، وهذا خطأٌ لأَن “القدَر” هو المصير، والمقصود “القدْر” أَي القيمة والمستوى، فالأَصح: على “قدْر” المسؤولية.
وأَيضًا: “أَطاح بالحكومة”، وهذا خطأٌ لأَن “أَطاح” لا يتعدَّى بحرف الجر بل بالمفعول، فيقال: “أَطاحَهُ” و”أَطاحَها” لا “أَطاح به” أَو “أَطاح بها”.
وأَكثر بعد: “ثقافة” القتل والإجرام والفساد، وهذا تَعَدٍّ فاقِعٌ على كلمة “ثقافة” ذاتِ المعنى الإِيجابي فلا تُستعمَل لفعْلٍ سلبيّ، بينما الأَصح: “ظاهرة” القتل والإِجرام لأَن “الظاهرة” تتَّسع للمَعنَيَين السلبيّ والإِيجابيّ، بينما كلمة “ثقافة” لا وجه لها إِلا الإِيجابيّ النافع.
ويتبارى السياسيون بحماسةٍ قصوى (والصحيح دومًا “حماسة” لا “حماس”) كي يكشفوا الحقيقة في فاجعة المرفإِ فيقولون بَبَّغاويًّا: “اليوم قبل الغد”، وهذا كلام تافهٌ فارغٌ من أَيِّ مضمونٍ لأَنهم جميعًا يتمنَّون الحقيقة لا “اليوم قبل الغد” بل دومًا “بعد الغد”، تأْجيلًا وتسويفًا وتمييعًا حتى تضيع الحقيقة.
ويتبارى الإِعلاميون في استخدام عبارة “سيِّد الموقف” فينسُبون إِليها معانِـيَ سلبيةً كـ”الخوف سيِّد الموقف”، أَو “اليأْس سيِّد الموقف”، ولا يمكن استعمال “السيادة” لأَمرٍ سلبيّ بل إِيجابيّ، والأَصح” “الخوف سائد” أَو “اليأْس سائد” أَي “منتشر” لكنه ليس “سيِّدًا” بمدلول “السيادة” الإِيجابي.
وقد أَسترسل بعدُ لشواهدَ أُخرى بعدُ وأَغلاطٍ أَكثر ومغالطاتٍ أَسوأَ، لكن وقتي محدودٌ ومساحتي الإِذاعيةَ محدَّدة. إِن هي اليوم إِلَّا نماذج تجتاحنا يوميًّا في تغطيات الإِعلام وتصاريح السياسيين، وهي أَسوأُ مما تجتاح “الكورونا” أَبرياءَ شعبنا.
“هل وقتها الآن”؟ قد “يَقْعَنْسِس” أَحدُهم و”يحْلَنْشِش”معترضًا على إِثارتي هذا الموضوعَ اليومَ وسْط ما يُـحيق بنا. وجوابي واضح: هل يَسمَح الفرنسيّ أَو الأَميركي أَو الإِنكليزي أَو أَيٌّ سواهم أَن يَسمَع إِعلاميًّا أَو سياسيًّا فاضحَ الغَباء في استعمال لغته؟ طبعًا لا. فلِماذا إِذًا هذه الاستهانة بلُغَتِنا السليمة؟
إِن اللغة، كما قلتُ في مطلع حديثي اليوم، هي بنتُ العقل، مَن ينطِقُ بها الْتواءً أَو خَطَأً، يعاني في عقله الْتِواءً أَو جهلًا في معرفته.
وهذا الحاصلُ عندنا بين الالتواء والجهْل مع الإِعلام والسياسيِّين: إِعلاميون يعانُون الْتِواءً في استعمال اللغة، أَما “بيت بو سياسة” فلا عَتَبَ عليهم ولا أَملَ منهم، لأَن فيهم جَهَلَةً أُميِّي معرفةٍ بقدْرِما هُم أُمِّيُّو وطنيةٍ ووفاءٍ وإِخلاص.
هـنـري زغـيـب