يَحدُث أَن يدور كلامٌ وجداني يبادر له سامع: “هذا حكي شِعر” مقلِّلًا من أَهميته مزدريًا قيمتَه.
طبعًا لا يستحقُّ هذا السامع التوقُّف عند جهله. الشعر لا يحتاج أَمثلةً بل تمثُّلًا. والتمثُّل لا يليق للشعر إِلَّا في أَعلى مراتبه. ومن هذه: أَن يتشرّفَ به رئيسُ دولة كبرى مع فجر ولايته.
أَقول “دولة كبرى” وتحضرني أَميركا ورؤَساء شرَّفوا بالشعر مطلعَ حكمهم. وهي عرفت هذه الظاهرة في احتفال تَسلُّمِ رئيسها الجديد الحكْمَ وقسَمِه اليمين الدستورية (20 كانون الثاني) وهو أَعلى المحافل الرسمية، فلا تكون المناسبة سياسيةً فقط تزول إِلى النسيان بعد انتهائها. هكذا يرفع الشعر قيمتها، دون أَن يكون الشاعر مدَّاحًا متزلِّفًا (ما أَبشع هذه العادة العربية).
هذه الدُرْجة بدأَها جون كيندي نهارَ تسلُّمه الحُكْم (الجمعة 20 كانون الثاني 1961): شاء أَن يكون ضيفَ الاحتفال شاعرُ أَميركا الوطني روبرت فروست (1874 – 1963) فأَلقى قصيدته “الهدية السخية”، مخاطبًا شعبَ أَميركا دون أَيِّ إِشارةِ مدحٍ إِلى الرئيس الذي صرَّح بُعَيْد أَيامه الأُولى في البيت الأَبيض: “أَعجبَتْني شجاعة فروست.لم أَعتبر يومًا عالَمَ السياسة منفصلًا عن عالَمِ الشعر. بين السياسيين والشعراء أَمر مشترَك: الشجاعة في مواجهة تحديات الحياة”. يومها علَّق الشاعر الأَميركي وليم ميريديث (1919 – 2007): “بادرةُ جون كيندي دليلُ أَنه مثقَّف ويعرف دور الثقافة الأَساسي في نهضة أُمتنا”.
بقيَت الفكرة في بال مَن كان في فُتُوَّته مُعجَبًا بكيندي: الرئيس بِل كلنتون. شاء يومَ تَسَلُّمه الحُكْم (الأَربعاء 20 كانون الثاني 1993) أَن يتوِّج بالشعر الاحتفال. جاء بالشاعرة مايا أَنجِلو (1928 – 2014) فأَلقَت قصيدتها “على نبْض الصباح” ساردة فيها مسيرةَ الأَميركيين السُمر البَشَرة، دون أَيِّ إِشارةِ مدحٍ إِلى الرئيس الجديد.
استحسن الفكرةَ باراك أُوباما: يوم تَسَلُّمه الحُكْم (الثلثاء 20 كانون الثاني 2009) جاء بالشاعرة إِليزابيت أَلكسندر (مولودة سنة 1962) وأَلقَت قصيدتها “أُغنيةٌ في استقبال يومٍ جديد”، دون أَيِّ إِشارةِ مدحٍ إِلى الرئيس الجديد.
وكذا قبل أَيام فعل الرئيس الجديد جوزف بايدن. توَّج بالشعر احتفال تنصيبه: جاء بأَصغر شاعرة أَميركية ساطعة، آماندا غورمان (22 سنة) فأَلقت قصيدتها “التلة التي نَرقى” وفيها دعوة إِلى الأَمل والسلام وإِلغاء التمييز بين الأَجناس والأَعراق.
هكذا الشعر يَرفع من مستوى الحكْم والحاكم، والعهد والولاية، فيعلو المستوى على كل ما عداه. والشعر، منذ فجر التاريخ الجليّ، يفتتح عصر النهضة في كل أُمّة (“الإِلياذة”، مثالًا). علامة الأُمم الكبرى في التاريخ: عبقرية شعرائها الخالدين، يتفيَّأُ بهم الحكَّام كي يَـخْلُدوا ويَـخلُدَ حكْمُهم. هل كان أَصغر تلميذ يعرف سيف الدولة لولا المتنبي؟
الذين (ومعظمُهم سياسيون) يهزأُون من كلامٍ وجدانيٍّ ويقولون “هذا شعر”، فلْيتَطهَّروا قبلذاك من دنَسهم السياسي وغبائهم الثقافي، كي يستحقُّوا أَن يكونوا (ولن يكونوا) خاطرةً، ولو عابرةً، في بال شاعر.
هـنـري زغـيـب