“أُرقص، أُرقص، لا تتوقَّفْ عن رقص. طالما الموسيقى نابضة واصلِ الرقص. لا تسَل لماذا. لا تفكر بالدافع والوازع والـمَنازع. إِذا فكَّرتَ تتوقَّف قدَماك. تنشلَّان. لا تهتمَّ لِـما تصادف أَو تسمع. واصِل رقصَك. تعبتَ؟ لا خيار آخَر لك. واصِل رقصك. إِذا جلستَ تفكِّر ستبقى جالسًا ولن تتقدَّم. أُرقص فتجتذب إِعجاب آخرين قد تحفِّزُهم حركةً وانطلاقًا. طالما موسيقى الحياة نابضةٌ فيك، واصلِ الرقص”.
على هذا النداء بنى الروائي الياباني هاروكي موراكامي (71 سنة) روايته “أُرقص أُرقص أُرقص” (طوكيو 1988) فراجت وتُرجمَت إِلى عشرات اللغات، لِـما فيها من دعوة إِلى الحياة ومواجهتها بتحدّي صعابها في إِكمال المسير أَيَّا تكن العوائق والصعوبات.
طبعًا ليس الرقص هنا بمعناه الحرفي بل بأَبعاده الحياتية والفكرية وحتى الروحية، لأَنه نقيضُ الجمودِ والجمودُ مَوات. فالحاضر ليس موجودًا بمعناه الكينوني، لأَنه لحظةٌ هاربة بين القَبْل والبَعْد، بين الماضي والحاضر، بين الأَمس والمستقبل، فهو جسر عابر قصير يجب أَلّا نتوقف عنده ولا عليه. فلْنُكْمِلْ. لا نَتَوقَّفَنَّ لأَيِّ سبب وإِلَّا سبَقنا نهرُ الحياة. هنا تتضح مقولةُ هنري برغسون إِنَّ الحياةَ نهر متدفق باستمرار والحاضرَ نقطة جاريةٌ في هذا النهر ليست أَبدًا حيثُ هي، فلحظةَ نراها هنا تكون أَكمَلت نُزولًا وتصبح تلك اللحظة من الماضي.
وما يُحكى عن الفرد يُحكى عن الجماعة، وتاليًا عن الوطن، وتحديدًا عن الدولة التي تدير شؤون الناس في الوطن.
من الدول ما تتذكَّر المستقبل فتخطِّط وتصمِّم وتُطوِّر وترى إِلى الغد منذ لحظات اليوم تحضيرًا وُصولَ الآتي كي يكون الوطن جاهزًا له. إِذًا هي في آنٍ متحرِّكٍ دومًا صوب المستقبل.
ومن الدول ما تعيش في الماضي ولا تستخدم الحاضر للتطلع إِلى المستقبل، إِلى الـ”ما سيَكون”. تبقى في الأَمس، في الـ”كان”، وفي هذا جمودٌ ومَوات، فَتصنِّم مَن كانوا حتى يظَلُّوا. تُقزِّز ما “كان” ولا تُتيح له “يكون” فتلغي كينونته القابلةَ الحياة. وما لم يَعُد قابلًا الحياةَ في الأَمس، لن يكون قابلًا الحياةَ في الغد، وتاليًا يكون الوطنُ متجمِّدًا والجمودُ مَوات.
ما القول إِذًا في دولة تَحوَّل جُمودًا كلُّ ما فيها: وضعُها الاقتصادي جامد، وضعُها المعيشي جامد، وضعُها المالي جامد، وضعُها الدﭘـلوماسي جامد، ووضعُها السياسي مجمَّدٌ بعنعنات سياسية صغيرة وحزازات شخصانية مصلحية تتلهَّى بصغائر المصالح الشخصية وتُغفل عن مصالح الوطن.
وما دام الجمود هو الـمَوات، فتجنُّبُ الجمود في مواصلة الرقص رغم جمود المحيط الحاضن.
الحياةُ للراقصين صوب الآتي، كي لا تتوقَّفَ أَقدامُهم فتنشَلّ وتتجمَّد في عروقها الدورةُ الدموية.
هذا على مستوى الفرد.
وعلى مستوى الجماعة: لعينةٌ دولةٌ تُجمِّد الوطن لمصالح سَماسرتها، فتَشُلُّ الدم في مَفاصل مواطنيها وتَمنعُهم من مواصلة الرقص على إِيقاع الحياة النابض فيهم.
هـنـري زغـيـب