يخطئُ كثيرون، وفي طليعتهم سياسيون جَهَلة، حين يَسِمُون لبنان بـ”الوطن الصغير” معتبرينَه هاتين البقعةَ الجغرافيَّة الضئيلة والكتلة الديموغرافيَّة القليلة. ثم يُوجِّهون غضبَهم إِلى الدولة، ويتذمَّرون من السلطة الحاكمة.
أَبدأُ بالفصل بين الوطن والدولة والسلطة.
الوطن هو الشعب على أَرضه وخارجَها في العالم. مَن يغادر أَرض لبنان يحمل معه لبنان الوطن لا دولة لبنان. وتاليًا، نجاحُ اللبنانيين في الخارج هو نجاحٌ للوطن اللبناني في العالم يرتدُّ إِيجابًا على الوطن في الداخل.
ويُخطئُ كثيرون كذلك، بأَكثرَ جهلًا وغباءً، حين يستعملون عبارة “الدياسـﭙـورا اللبنانية”. كلمة “دياسـﭙـورا” تعني شعبًا مُشرَّدًا في الأَرض لا أَرضَ أُمًّا له ولا وطن. فكيف يكون للبنان “دياسـﭙـورا”، وأَرضُه راسخة في التاريخ، وهو وطن يرقى إِلى عصور عريقة؟
الوطن لا حدود له، لأَن شعبه ينطلق من أَرضه إِلى كل أَرض في جميع أَوطان الكوكب. الدولة لها حدود صارمة، لا سلطة لها على شبر واحد خارجَها، ولا على أَي فردٍ أَبعدَ شبرًا واحدًا من حدودها.
الوطن لا رأْسَ له ولا حكومة: أَبناؤُه في الداخل يخضعون لرأْس دولته وحكومتها، ومَن هم في الخارج يخضعون لحيثُما يكونون. ورجال الوطن يشعُّون داخله وخارجه بدون فضل الدولة.
الدولة، برأْسها وحكومتها، لا هوية لها خارج نظام سياسي قِيَمِيٍّ بحفظ الدستور وتطبيق القانون وفرض النظام. قوامها اثنان: رجُل دولة يعمل على أَنه خادم للدولة ومواطنيها، ورجُل يعمل على أَن الدولة ومواطنيها في خدمته، فيسقط من رجُلِ دولةٍ إِلى رجُلِ سُلطة، بكل ما للسُلطة من تَسَلُّط وعسْف واجتياح قوانين واغتصاب حقوق، لإِرضاء أَزلامه ومحاسيبه وناخبيه.
رجُل الدولة يعمل لنهضة الدولة ويفكِّر بالأَجيال المقبلة. رجُل السُلطة يعمل لتسخير الدولة ويفكِّر بالانتخابات المقبلة.
رجُل الدولة يسهر على تحسين الإِدارة وترشيد المؤَسسات وتطوير أَدائها في خدمة المواطنين. رجُل السلطة يسهر على مصالحه السياسية والمناطقية وخدمة زبانيته، مطيحًا، إِذا اضطُر، هيبةَ الدستور وانضباطَ النظام.
لبنان، على أَرضه وإِشعاعًا على أَراضي العالم، ليس “وطنًا صغيرًا” بل دولةٌ صغيرة وهذا لا يضيره أَبدًا. الـڤـاتيكان أَصغر دولة في العالم (أَقلّ من 450 كلم² وأَقلّ من 500 نسمة – أَي 36 مرة أَصغر مساحةً من مدينة بيروت)، ومع ذلك يدير نحو مليار كاثوليكي في العالم. إِذًا ليس الأَساس كبْر الجغرافيا ولا كثافة الديموغرافيا بل هيبة الدولة برفع حياة الشعب من حسَن إِلى أَفضل.
الوطن هو المنارة. الدولة هي الإِدارة.
الوطن يقاس بحضارته وبإِشعاع أَبنائه ثقافةً وإِبداعًا في كل ميدان وكل مكان. هم يصنعون نهضته وخلوده، وهو بهم باقٍ شعبًا وأَرضًا وتاريخًا. وعلى الدولة أَن تكون خادمةَ الوطن برجالٍ فيها، نادرُهم رجالُ دولة صالحون يُذكَرون، وجلُّهم رجالُ سلطة ساقطون فاسدون زائلون مهما رزحوا على صدور شعبهم.
ويا عارَ الدولة من شعب الوطن، مقيميه والمهاجرين، حين لا تكون خادمتَه الأَجيرة، وعلى مستواه، بأَن تحفظه وطنًا يعتزُّ به أَبناؤُه على أَرضه، ويكبُر به أَبناؤُه في أَوطان الآخرين.
هـنـري زغـيـب