بين مرويات شيخ الأَدب الشعبي سلام الراسي في كتابه “الناس بالناس” مقطوعةٌ بعنوان “فالج… لا تعالج”، روى فيها عن رجل عجوز أَصابَه الفالج في آخر حياته فأَقعَدَهُ، ولم تنفعْه جميع الوسائل والوسائط والعلاجات والمعالجات، وهو يزداد طلَبات واطِّلابًا وتطَلُّبًا وتصَلُّبًا، حتى هجَّ منه أَهل بيته، وتأَفَّفوا وتذَمَّروا وضَجُّوا وما ارتاحوا حتى… “أَخذ الله وديعته” وفْق تعبير سلام الراسي الذي ختم المروية بأَن من يصيبه فالج… لا تعالجْه، إِذ لن ينفعَه أَيُّ علاج.
ولعل وضْعَنا اليوم في لبنان بلغ هذا الحدَّ من الفالج والفَلَجَان والفَلَتَان حتى يئِس الشعب من أَيِّ علاج محلِّي أَو دُوَلي، طالما أَنَّ الشعب مفلوجٌ في قعر البئر، والمفترَض أَن يعالجه يتنزَّه في إِقليم آخر ولا يَسمع صرخات الاستغاثة في قعر البئر.
وكيف لا يَصرخ الشعب، وهو يَشعر بضياع الوقت وهدْر العمر بين فكَّي سُلطة فشلَت في إِدارة الأَزمات المتلاحقة كورونيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا ومصرفيًّا واجتماعيًّا وصحيًّا، ولا ينتهي التعداد.
أَمس السبت بدأَ الإِقفال العام، والشعبُ على شفير الانفجار بين العصيان والانتظار، وليس مَن يسأَل ولا مَن يهتمّ، والسلطة مشغولة بتشكيل لجان عقيمة وبيانات عديمة وقرارات سقيمة، ولا حلَّ في أُفق يتمزَّق بين غروب غائم وليل داهم.
ويضيع الشعب… يضيع بين ما يتلاطم على رأْسه من أَخبار انهيارات وتناقضات وإِخبارات وعقوبات ومفاوضات واجتماعات وتغريدات ولقاءَات وتكتُّلات ومعارضات ومؤْتمرات واقتراحات وتداولات ومحاولات وتشكيلات وتشكيكات وزيارات ووزارات ومحاصصات وتسريبات وتهديدات وإِصلاحات ومشاورات ومحاسبات وزبائنيات وعقوبات وتعقُّبات وحمايات وتعطيلات ووطنيات وقرارات وتكذيبات ومعيشات ومعليشيَّات وكورونات ومستشفيات وإِقفالات واعتصامات وتظاهرات وانتحارات وعصيانات والتزامات وانهيارات… حتى انهار السقف على أَبشع الميتات.
في الأُسبوعين المقْبلين من الإِقفال العام، يُلْقي المسؤُولون السببَ لَومًا على الشعب اللبناني بأَنه لم يلتزم بالإِجراءات الوقائية ولذا ازداد تَفَشِّي الوباء. وهذا صحيح، إِنما أَفرادُ هذا الشعب ذاتُهُم، في أَيِّ بلدٍ من العالم، يلتزمون حَتمًا وحُكمًا بالإِجراءات لأَن هيبةَ الدولة في أَيِّ بلد من العالم تَفْرض حزْمَها وحسْمَها وعقوباتِها الصارمة فيرتدع المواطنون. ولنا، في ما يَبلُغُنا من أَهل وأَصدقاء في الخارج، ما يشير إِلى خوفهم من هَيبة الدولة، وتاليًا يلتزمون بحرفية الإِجراءات.
أَما حين تفرض الدولة إِجراءات ولا تتابع تنفيذَها بعزْم، ومراقبتَها بحزْم، ومعاقبتَها بحسْم، فهي كرمٌ على درب وضَعت في الكرْم رجلَ قَشٍّ لا يُخيف حتى العصافير. وفي أَمثالنا أَن “الرزق السائب يعلِّم الناس الحرام”، فكيف حين تكون الدولة سائبةً، وقرارتُها حبرًا على ورق الإِجراءَات؟
أَول من أَمس، صباح الجمعة، صدرَت جريدة “نداء الوطن” وعلى صفحتها الأُولى عنوانُها الرئيس: “إِنذار فرنسي أَخير لــ”تماسيح” المنظومة”، إِشارةً إِلى وجود الموفد الرئاسي في بيروت وَجَولاته على حضرة السياسيين.
ولعلَّ مانشيت “نداء الوطن” عن “التماسيح” تختصر ما يمكن أَن يقوله الشعبُ للموفد الفرنسي: “عبثًا تحاول معهم يا مسيو Durel دوريل، فإِنهم جميعًا: فالج… لا تعالج”.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib