غُروب الأَربعاء الماضي هذا الأُسبوع. الشمس تغادر باريس مدينةَ العظماء، ساحبةً منديلَها الهادئ عن مبنًى تاريخيٍّ تنبض على جبينه العالي عبارة “الأُمَّةُ وفيةٌ لعظمائها”.
داخل المبنى: حضورُ مكمَّمين يتردَّد بينهم صوتُ الصمت الحافي، يتقدَّمهم شابٌّ مثقَّف واعٍ باعتزازٍ ساطع خلودَ الأَدب والفن في مجد بلاده، عميقُ النِظرة بليغُها يقود بلاده بحيوية الشباب وحزْم المكرَّسين، شابٌّ برتبة رئيس جمهورية اسمه إِيمانويل ماكرون. حدَّهُ واقفةٌ حبيبتُه بريجيت، وحولهما رئيس الحكومة، رئيس مجلس النواب، رئيس مجلس الشيوخ، وزيرة الثقافة روزلين باشْلو، الرئيس الفرنسي السابق فرنسْوَى هولَّاند، ومثقَّفون.
خارج المبنى: ثمانية جنود في زيِّهم الخاص يتقدَّمون متباطئين، على أَكتافهم نعشٌ مُكَرَّمٌ بعلَم فرنسا، خلفهم ضابط يحمل وسامًا. يدخل الموكبُ المبنى. يقِف الجميع احترامًا وإِجلالًا.
هكذا انتقل موريس جُنُـڤْوَى Genevoix من ضريح موقَّتٍ بقي فيه أَربعين عامًا (وفاته 1980) ليستريح في الجناح رقم 13 من مبنى الـﭙـانْتِيُون، بين اثنَين من زملائه في الخلود: ڤـيكتور هوغو Hugo وأَلكسندر دوما Dumas ليكون الفرنسيَّ التاسع والسبعين منذ أَوَّلهم ڤـولتير سنة 1791.
بعد قراءة من كتاباته، تقَدَّم إِيمانويل ماكرون، وبصوت عميق واثق لَمَّاح وقراءة فصيحة وُثقى، أَلقى كلمة تنضح بالشعر والإِكرام للمناسبة المزدوجة: مئوية دفْن “الجندي المجهول” تحت قوس النصر سنة 1920، واستقبال الـﭙـانْتِيُون جثمانَ الروائيّ موريس جُنُـڤْوَى، عضو الأَكاديميا الفرنسية منذ 1946، وأَمينِها العام الدائم طيلة خمس عشرة سنة (1958 – 1973)، شارك في الحرب العالمية الأُولى وأُصيب وشُلَّت يمينُه التي يكتب بها، وصاحب مؤَلَّفات كثيرة في طليعتها “رفاق 1914” الجامعُ مذكراته على الجبهة من آب 1914 إِلى نيسان 1915.
روايته “رابوليو” Raboliot نالت سنة 1925 جائزةَ غونكور (التي تطلق مبيع المؤَلفات كثيفًا) فتمكَّن من شراء بيت عند ضفة اللوار أَمضى فيه بقية حياته، وتحوَّل اليوم متحفًا.
احتفال الأَربعاء أَخذَني إِلى مشهد مماثل قبل ربع قرن، حين تابعتُ في 23 تشرين الثاني 1996 نقْل جثمان أَندريه مالرو إِلى الـﭙـانْتِيُون في الذكرى العشرين لوفاته (1976). يومها كان الموكب، كهذا الأُسبوع، مَهيبًا ساطع الإِجلال، يتقدَّمه رئيسُ الجمهورية جاك شيراك، وراءه رئيس الحكومة، رئيس مجلس النواب، رئيس مجلس الشيوخ، وزيرة الثقافة فرنسواز جيرو. يومها ختم شيراك كلمته البليغة بندائه: “أَندريه مالرو: أَبعدُ من الواقع، ما يعاش فيعانقُ الحلم. وأَنتَ، لأَنكَ عرفتَ كيف تعيش أَحلامَك واقعًا، وكيف تجعلنا نعيشها معكَ في واقعنا، خُذ مكانكَ اليوم في هذا الـﭙـانْتِيُون مُخلِّدِ الجمهورية بعظمائِها”.
هكذا إِذًا، يعي رئيس البلاد أَنَّ مَجْدَها بعظمائها الخالدين لا بسياسيِّيها العابرين الزائلين.
وهكذا في كل عهد: يَعبُر الرؤَساء، يَعبُر الوزراء، والنواب يَعبُرون والسياسيون، ويبقى في ذاكرة الحكْم والشعب موكبُ مبدعٍ من عظماء البلاد يتقدَّمه، باعتزازٍ وإِجلال، رئيسُ الجمهورية.
هـنـري زغـيـب