وأَنا أُنْجز المرحلةَ الأَخيرةَ من إِعداد كتابي الجديد عن جبران، وبحثيَ عن صُوَرٍ ووثائقَ تُغْني نصوصه الجديدة الموثَّقة، عثرتُ على ثلاثة أَغلفةٍ من جريدة “المعرض”، كان ميشال زكُّور سبَّاقًا بها، بل رائدًا في إِصداره ثلاثةَ أَعدادٍ أُسبوعيةٍ متتاليةٍ، مواكَبَةً وصولَ جثمان جبران من نيويورك إِلى بيروت في آب 1931.
يهمُّني هنا من هذه الأَعداد صدورُ غلافِ الثالث منها حاملًا صورة الــ”لُوج” (loge) الخاص بالرسميين (الشرفة الخاصة) في الــ”غران تياتر” إِبَّان الاحتفال التأْبيني، وتحت الصورة عبارتا “حضرة رئيس الجمهورية شارل دبَّاس” و”حضرة وزير الداخلية موسى نمور”.
لفتَتْني فيهما كلمة “حضرة”. ولعلَّها الترجمة الأَدقُّ لكلمة “مسيو” الفرنسية، و”مستر” الإِنكليزية، بعيدًا عن أَلقاب عثمانية فَوقية وَرِثها لبنان عن 400 سنة من احتلال “الرجل المريض” بلادَنا، مُوْرِثًا شعبَنا عاداتٍ شعبيةً، وأَلقابًا تَمسَّك بها السياسيون عندنا، من طراز “فخامَتْلُو” لرئيس الجمهورية، و”عُطوفَتْلُو” لرئيس مجلس النواب، و”دولَتْلُو” لـرئيس الحكومة. ولم يكتفوا بثلاثتهم، فتوسَّعت عَثْمَنَة “دولَتلو” لتشمُل نائب رئيس مجلس النواب، ونائب رئيس مجلس الوزراء.
وانسحبت هذه العَثْمَنَة على المخاطِبِين من إِعلاميين ومَرؤُوسين ومواطنين ومُرائين، فأَخذوا يتوجَّهون إِلى المخاطَب بــ”فخامتك”، و”دولتك”. واستحلى سائر السياسيين دخولَ حلَبَة الأَلقاب، فأَفرزوا كلمة “معالي” للوزير، و”سعادة” للنائب، وأَخذ التخاطُب يدور على “معاليكَ” و”معاليكِ”، و”سعادتَك” و”سعادتِك”، ويبقى اللقبُ ملازِمًا صاحبَه الرئيس والوزير والنائب حتى حين يصبح الرئيسَ السابق والوزيرَ السابق والنائبَ السابق.
ولو أَن هذه الأَلقاب العثمانية الفوقية تَزول وتبقى فقط للذكْر أَو المخاطبة كلمةُ “حضرة” -كما نشرها ميشال زكُّور- لكنَّا نتساوى مع العالم الحضاري حيث “حضرة” توازي Mr. le Président، أَو Mr. President، ولا يعود السياسيُّ يلبَس لَقَبَه قبل ثيابه صباحَ كل يوم، أَو فَلْتَدْرُج عبارة “السيد الرئيس” أَو “السيد الوزير” كما في بعض الدول العربية. هكذا يبقى السياسيُّ على مستوى الشعب لا فوقيَّ التصرُّف، ويكون هو خادمَ الشعب، لا أَن يَشْهَرَ لَقَبَه تَعاليًا فيجعلَ الشعبَ في خدمته، وقد يتطاوَلُ بعضُهم صَلَفًا فيجعل الدولة في خدمته وخدمة مستشاريه ومحاسيبه وأَزلامه. غير أَن اللقَب، لو يدري السياسيون، ليس سوى فُقَاعاتٍ مُبَهْرَجَة مُوَقَّتة زائلة، تختفي كما الزبدُ المبَهرَجُ المتعجرِفُ يختفي حين يبلغ حَصى الشاطئ فيبتَلِعُهُ الرمل.
إِن التمسُّكَ باللقب (حتى حين يُصبح صاحبُه “فخامة” السابق، أَو “معالي” السابق، أَو “سعادة” السابق) هو التمسُّكُ بورَق الشجرة دون الجذع. لكنَّ الورق يَسقط مع الوقت، ويَبقى الجذْع لا إِلى سقوط. ومَن يَعرف اسم حاكم أَلمانيا زمَنَ غوتِّه، أَو وزير الداخلية أَيام موزار، أَو عُمدة ﭘـاريس أَيام ڤـيكتور هوغو، فليرفَعْ يدَه.
الـمُوَقَّت يَزول مع الزمن، والثابتُ يبقى على الزمان.
الرؤَساء والحكَّام يغيبون مع أَلقابهم في النسيان، ويبقى المبدعون خالدين بدون أَلْقاب.
ومهما مَـــرَّ الزمنُ على غيابِ مبدع، لا يُمكن أَن يُصبحَ “الشاعر السابق” أَو “الكاتب السابق” أَو “الفنان السابق”.
وهذا هو الفرق الساطع بين السياسي البائد والمبدِع الخالد.
هـنـري زغـيـب