في مقدِّمة كتاب “العالَـمُ الآخَر – مطهرُ القديس ﭘـاتريس” (باريس 1906) كتَب المؤَلِّف فيليـپ دوفابريس: “قد يستغرب البعضُ اختياريَ موضوعًا يتناول قصصًا تَقَوِيةً قد تبدو ساذجة لكنها وثائقُ عن جذور أَساطيرَ قديمةٍ حول العالَـم الآخَر، وتَطوُّرِ فكرته على مَرّ الأَجيال، وما لحقَها من معتقدات “الجحيم” و”الـمَطهر” و”الفردوس”، خصوصًا في العصور الوُسطى، وتأْثيرها على التقاليد الدينية، ودخولها الآثارَ الأَدبية، كظُهُورها في إِيطاليا مع رائعة دانْتِه “الكوميديا الإِلهية” وفي نصوصٍ إِسـﭙـانية قديمة.
وفي تحليله ظاهرةَ “العالم الآخر”، يرى المؤَلِّف حضورَه في المعتقدات الشعبية الدينية منبثِقًا من شعورٍ هو بين الخوف والحاجة: الخوف من قوة عُظمى تُراقب وتُـحاسِب وتَعِدُ بالعقاب (جهنَّم) أَو بالثواب (الجنَّة) أَو بمرحلةٍ انتقالية (الـمطهر) ينقضي فيها عذابُ فترة العقاب بلوغًا إِلى استحقاق فترة الثواب.
لن أُطيل التوقُّف عند هذه الظاهرة، ففي كتاب دوفابريس صفحاتٌ مطوَّلة عنها، بل أَنتقِل إِلى أُغنيةٍ من جزيرة كورسيكا (أَرض ولادة ناﭘـوليون بوناﭘـارت) أَطلَقَها الأَخَوان ڤـينْتْشِنتي عنوانها “العالَـم الآخَر”، عن ولدٍ مات، يخاطب أُمَّه من العالَـم العَلَوي: “هُنا الزمان أَطْوَل، هنا الأَبَدُ دائم، هنا الفردوسُ كبيرٌ مثلكِ … لا ترتدي أَسْوَدَ الحِداد، هنا الملائكة بِيْضٌ، ملاكيَ الحارس دائمًا حولي، وأَمامي حمامةٌ تَهدِل بدون خوف من الصياد”.
قبل أَيام صدرت هذه الأُغنية، في لغتها الأَصلية بأَداءٍ لبنانـيٍّ، مُهداةً إِلى بيروت وأَهاليها بعد نكبة المرفَـإِ الرهيبة، تذكيرًا بنظرية “العالَـم الآخَر” في جهنَّمه ومَطْهره وفردوسه.
لكنَّ لبنان، كلَّ لبنان، مرَّ مرارًا بهذا “المطْهر”، وحُقَّ له – لا أَن يَذهب إِلى جهنَّم – بل أَن يَهْنأَ نهائيًّا بنعمة الفردوس.
بلى: مرارًا تَطَهَّر لبنان، كأَنما عبورًا من حياةٍ إِلى حياة، عنه وعن الآخرين دفَع ضريبة النار الرهيبة، نارٍ مُدمِّرة رَمَّدته مرارًا وكان كلَّ مرة يُشرق فجرًا جديدًا من ليل الرماد.
بلى: تَطهَّر لبنان كثيرًا عن خَطايا الآخرين، دفَع كثيرًا جزْيةً عن الآخرين، حُروبًا على أَرضه، وحروبًا بِـيُوضاسيين خَوَنَة من أَبنائه، وأَزماتٍ حارقةً سبَّبها له السِوى فاحتمَلَها ولَوى ظَهرَه رُزُوحًا ثم قام. صَلَبَه فرِّيسيُّو الخارج وفرِّيسيُّو الداخل، وظنُّوا أَنهم يَقضُون عليه لكنه خلَع عنه حريق المسامير، وكلَّما وَهِـمُوا أَنهم سحَقُوه ووَثِقوا من ضخامة الحَجَر على حَجْره في زنزانة المنطقة، كان يُدحرج الحجَر ويَـخرج لا إِليعازَرَ آخَرَ بل حياةً خالدةً لا تنطوي ولا تموت.
هكذا: من جيلٍ إِلى جيل، من لبنان الكبير إِلى لبنان الاستقلال إِلى لبنان 1975 إِلى لبنان 2020، ما زال أَقوى من جلَّاديه وغِيلانه ويُوضاسيِّيه، لأَنه أَرْزيُّ الجذور من أَول التاريخ، تَعبُر العصورُ ويَبقى، تَعبُر الأَجيالُ ويَبقى، تَعبُر المؤَامرات عليه ويَبقى، يَرمونَهُ في محرقة جهنَّم فينجُو ويحتَرقُ نَيرونيُّوه، لأَنه دفَعَ كفايةً جِزْية الـمَطهَر ولا يستحقُّ بعدُ سوى وُجهَةٍ واحدة: حريَّة الفردوس الأَبدية.
هـنـري زغـيـب