“أَزرار” – الحلقة 1148
سَنَقْطَعُهُم من غُصُون الأَرز ونَرميهم في نار لبنان
“النهار” – السبت 19 أَيلول 2020

في يومها الخمسين قلتُ أَعودُها، أَتفقَّد كيف تَستعيد وجهَها من تهشيم وأَجْراح.

مررتُ بالمرفإِ: يئنُّ بين أَطلاله. مررتُ بواجهتها: تستعيدُ بعض ملامح، لكنها ما زالت أَﭘُّـوكاليـپْـتية بأَقسى ما يمكن الكابوس أَن يَرتجل. لم أَستطع أَن أُميِّز بي شُعورًا عَصَف: أَهو الغضب؟ أَم الحزن؟ أَم الكآبة؟ أَم الثورة على كُلِّ ما… وكُلِّ مَن؟

هدَّأَتْ من اضطرابي النعمةُ التي تَسكُنني منذ وعَيتُها حياةً لي جديدة. أَمسكَتْ بِيَدي كي لا تنزفَ عيناي قهرًا مالحًا على أَبنيةٍ فاغرةٍ صَدْمَتَها، على شرفاتٍ فقَدَت أَصواتها والتلويحات الهانئة، على شوارعَ ضاعت بين أَحجارها الصَرعى أَصداءُ ناسها وذكرياتِـهم الناضحةِ هناءةَ الـمُطايَبَات، على نوافذَ هربَت من أَمانها، على معادنَ أَلْوَتْها النارُ الجحيميةُ الفاجرة، على مقاهٍ ومطاعمَ ضاعت منها نوستالجيا العجقة الليلية، على بيوت تراثية تكسَّرَت على وُجوهها سنواتُ الضوء، على خارطةٍ بيروتيةٍ جميلةٍ تَبحث عن خطوطها بين الردْم والانتظار.

مررتُ بتلك الشوارع، بتلك البيوت، بأُولئِك الناس، النعمةُ تُمسك بيدي، وفي خاطري يهدُر سؤَال: من حَقَدَ إِلى هذا الحدِّ على بيروت، مرفأً تاريخيًّا وواجهةً تراثية ووجهًا بهيًّا، حتى سبَّب لها هذا الويل؟ وانتفضتُ في يقظةٍ من غضَب: لا غفرانَ له أَيًّا يَكُن. علَّمَنا الناصريُّ أَن نَغضَب ولا نُبغِض؟ عُذْرًا يا مُعلِّم: أَمام كارثة بيروت طاف بُغْضُنا على كلِّ غضَب. فاضَ بلا ضوابط.

تلميذُك متَّى، في فصله الخامس (44)، يَنقُل عنكَ قولَك: “أَحِبُّوا أَعداءَكم. بارِكُوا لاعِنيكُم. أَحْسِنُوا إِلى مُبْغضيكُم. صَلُّوا لِـمَن يُسِيئُون إِلَيْكُم وَيطْردونكُم”. لا يا سيِّد. عن إِذْنك. هذه المرة اسمَح لنا بها. ولو لِـمَرَّةٍ، سنُخالف تعاليمَك. قد نُحِبُّ (لنُرضيكَ) أَعداءَنا البعيدين. ولكن كيف تريدُنا أَن نحب القايـينـيـيـن الداخليين أَعداءَ شعبنا ووطننا؟ كيف تريدُنا أَن نباركَ لاعنين لَعِينِين ملعونين يُطيحون بأَنانيةٍ قاتلةٍ مستقبلَ أَجيالنا الجديدة؟ كيف تريدُنا أَن نُحسن إِلى اليوضاسيين مُبْغضي كلِّ محاولةٍ لإِنقاذ لبنان؟ كيف نغفِر لِـمَن أَساؤُوا يومًا إِلينا، وهُم نيرونيُّون يُسيئُون إِلينا كلَّ يوم؟ كيف نُصَلِّي لِـمَن يَطردوننا، وهُم يَطرُدون لبنانَ من لبنان ليُحِلُّوا على أَرضه رُعاعَ الأَرض؟

أَنتَ الذي قال لأَبيه: “إِغفِر لهم لأَنهم لا يَدرون ماذا يَفعلون”، ما كنتَ لتَغْفِرَ اليوم لهم، لأَنهم يَدرون تمامًا ماذا يَفعلون بشعبنا والوطن!

أَنتَ الذي حَمَلَ السُوط في الهيكل وانهالَ به على الـمُرائين الفاسدين، كنتَ اليوم ستنهالُ ثائرًا على هؤُلاءِ الذين، بعنادهم واستزلامهم وبيعِهم ضمائرَهم، يُدمِّرون هيكل لبنان على رؤُوسنا جميعًا.

لا يا سيِّد. هذه المرة اسمَح لنا بها. سنَلْعَنُهُم واحدًا واحدًا، هؤُلاء الـمُشَـرِّدِين شَعْبَنا.

أَنتَ قُلتَ إِن الأَغصان الفاسدة تُقْطع وتُرمى في النار. وهذا ما سنَفْعَلُه نحن: بِـحقْدنا الهائل سنَنْهالُ عليهم بلا رحمة، وسنَقْطَعُهُم من غُصُون الأَرز، ونَرميهِم واحدًا واحدًا في نار لبنان.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib