لم يكَد المنكوبون في واجهة بيروت يجفِّفون أَسَاهُم على أَحبابهم، ويُلَمْلِمُون أَشلاء خيبتهم لضياع بيوتهم وأَملاكهم وأَرزاقهم إِثر انفجار المرفإِ حتى انفجر حريقٌ ثانٍ أَرعبَهم من جديد، مالئًا سماءَ بيروت غُيومًا سُودًا وأَوبئةً قاتلةً من كل نوع.
ما الذي بعدُ ينتظرُ المواطنَ اللبناني، وما الذي ينتظرُه بعدُ هذا المواطنُ المسحوقُ بـــإِهمال دولته الـهَشَّة؟
ما الذي يأْمله بعدُ من دولةٍ، عوضَ أَن تكون سقفَ حماية له، جعلَت بيتَه بلا سقْف وفضاءَه مطرًا من نثار الدخان السرطاني؟
ما الذي بقي له من الإِيمان بِدَولته، وهو يشهد كلَّ يوم لا مليحةً جديدة بل فضيحةً جديدة؟
يومًا فضيحةُ الشاي السريلَنكي، يومًا فضيحةُ السمك الفاسد، يومًا فضيحةُ الفيول العراقي، يومًا فضيحةُ الدجاج النافق الصلاحية، يومًا فضيحةُ المواد الغذائية النتنة، يومًا فضيحةُ الليطاني وما فيه من قذارة وحيوانات نافقة، … كل يوم فضيحة، فلا تنتهي الفضائح ولا ينكشف مسؤُولٌ واحدٌ ولا يدخل متَّهمٌ واحدٌ وراء قضبان.
هل بعدُ نستغرب إِن فقدَت ثقتَها بدولتِنا دولٌ ترسل المساعدات إِلى منكوبي بيروت فلا يصل من معظمها شيْءٌ لمنكوبي بيروت؟
سرقات موصوفة فاجرة يلاحقها المواطنون يوميًّا بحزن وغضب ويأْسٍ وقرَف، وتبقى جميعُها خارج العقاب. موادُّ غذائيةٌ مدعومةٌ تذهب إِلى دعم التجار مفْترسي المستهلك اللبناني، مساعداتٌ طبية، تقديماتٌ عَيْنية، صرَّافون من فصيلة سمك القِرش يتحكَّمون بالناس ولا من يَضْبِطُهم، مواطنون يقِفُون ساعاتٍ مطَّاطةً في صفوف الذُلّ عند شُبَّاك المصرف كي لا ينالوا إِلَّا حفنةَ أَوراقٍ لا تكفيهم عشاءً عائليًّا ليومَين، نُفاياتٌ تتراكم على الأَرصفة، ذُعْرٌ أَمنيٌّ عند كل منعطف من “راجحٍ” مَـخفيٍّ، موظَّفون كَسالى تنابلُ مدعومون متَّهمون بتُهمٍ موصوفةٍ ما زالوا مرتاحين يتقاضَون رواتبهم لقاء إِهمالهم واجباتهم التي تقضي على أَرواح الناس وأَرزاق الناس ومصائر الناس.
مواطنٌ يشعر أَنه مظلومٌ في أَرضه، مسحوقٌ بِدَولته، مقْهورٌ بحُكَّامه، محرومٌ من الأَمن الغذائي والأَمن الصحي والأَمن الاجتماعي والأَمن السياسي والأَمن الأَمني،… هل يلامُ إِن لم يَعُد يحتمل ولا عاد يُسامح ولا يريدُ أَن يتساهل حتى فاض غضبه صارخًا ساخطًا على كل الهرم منذ رأْس الهرم؟
أَسئلةٌ أَسئلةٌ يطرحُها ولا يأْتيه جواب واحد، عدا عقد اجتماعات عديمة وتشكيل لجان عقيمة.
ما الذي بعدُ ينتظرُ المواطنَ اللبناني، وما الذي ينتظرُه، بعدُ، هذا المواطنُ المسحوقُ بــإِهمال دولته الـهشَّة؟
مَن يوقف هذا المدَّ الهائل من هجرة شبابنا وطاقاتنا هجًّا من هذه الدولة ومسؤُوليها القَصْديريين.
حملوا يأْسهم وهَجَروا. حملوا قرفَهم وهاجروا. إِلى أَيِّ بلاد تَـهَجَّروا حاملين مستقبلهم وخبراتهم وشهاداتهم ولم يلتفتوا وراءَهم حتى ولا لِلَفْتات وَداع.
بين أَمثالنا اللبنانية: “يا رب، ما موت لا غريق، ولا حريق، ولا مشرَّد عَ الطريق”. وها هو المواطن في وطنه مهدَّدٌ يوميًّا بالموت غريقَ الفقر والخوف والخطَر، ضحيةَ حريق طال المدينة وأَهل المدينة، ومشرَّدًا على الطريق بعدما بات بلا بيتٍ ولا سقفٍ يحميه.
حين يصبح الوطنُ تهديدًا يوميًّا، والدولةُ جَزَّارًا يوميًا، لا عجبَ أَن يهجُّ أَبناؤُه بحثًا عن وطنٍ، أَيِّ وطنٍ، فيه دولة تُؤَمِّن الأَمن والأَمان والعيش الهنيْءِ الآمِن.
في السائد السائر تعبير: “حلَّت عليه لَعنةُ الوطن”. لا. أَبدًا. الوطنُ رَؤْومٌ رَحُومٌ يغمر أَبناءَه بحنانٍ ولا يمكن أَن يُطلقَ لعنةً على أَبنائه.
اللعنة إِذًا: ليست من الوطن بل مِـمَّن يَسُوسُون الوطن. لذا، فَلْيَتَغَيَّر السائدُ ليكون: “حلَّت عليه لَعنةُ الحُكْم ولعنةُ الدَولة”.
هنري زغيب
www.facebook.com/poethenrizoghaib