على رابية أَنطلياس، وقَفَ في هَيبة الحضرة، رفَع يدَيه، حمَلَ الوسامَ الأَرفعَ في بلاده، وقلَّدَه عُنقًا سامقًا بعلُوِّ أَرزة.
على رابية جاج، وقَفَ في مهابة الحضور، أَحنى يديه، حمَلَ الرفشَ كأَيِّ فلَّاح لبنانيّ، وَزَرَعَ أَرزةً سامقةَ العُنق.
المسافة بين الرابيتَين؟ إِشراقةُ لبنان بين قمَّة وقمَّة. كلتا القمتَين رمزُ لبنان الخالدُ على جناحَي الديمومة والإِبداع.
بين الوطن الدائم والدولة العابرة، اختار رئيسُ فرنسا أَن يبدأَ زيارتَه بارتفاعة وانحناءَة، بدءًا بالرمز في بيت فيروز، وختامًا بالرمز في علَم لبنان.
اختار الوطن. وفي ما تبقَّى له من وقت، أَعطى الدولة وقتًا مستقطَعًا مع مَن لا رمزَ فيهم ولا بقاء.
الأَرز! رمزنا الحيُّ الذي انحنى البابا فرنسيس وبَاسَهُ أَخضرَ زاهيًا على أَرزةٍ في علَم لبنان، وانهال تصفيقٌ في باحة الـڤـاتيكان على اسم الوطن الذي اهتزَّ العالم كلُّه للصاعقة التي ضربَت بيروته الرائعة.
لم يكتفِ أُسقف روما بخمس صفحات خُطبتِه عن لبنان في الكرسي الرسولي، ولا اكتفى بالدعوة إِلى الصلاة من أَجل لبنان، بل أَرسل أَمين سر دولته حاجًّا إِلى هلالِ مسجدٍ وصليبِ كنيسة، هما أَيضًا رمزٌ في لبنان فريدٌ بين أَقرانه.
رمزٌ حيٌّ آخَرُ مرة أُخرى! ويعبق في لبنان الإِيمانُ ابتهالًا يمتدُّ من “بِسْم الله الرحمن الرحيم” إِلى “باسم الآب والابن والروح القدُس”، وتصَّاعدُ الصلواتُ مرتفعةً جميعُها إِلى وُجهة واحدة: الإِله الواحد ربِّ العالمين.
كأَنما هكذا قدَرُ لبنان: بين انحناءِ التواضُع وارتفاعِ الحقيقة. ويمضي هذا الوطنُ الرائع مبارَكًا برُموزه الخالدة، عابرًا أَشباهَ رجالٍ فيه زائلين لا يستحقُّون نعمةَ أَن ينتموا إِليه.
هوذا لبنان، هي ذي رموزُه، وهو خلوده الذي مَن لا يُقرُّ به لا يستاهل أَن يكون ابنًا لوطنٍ يعصى على الزمان، وحين يضطرب فيه المكان يرقى إِلى جذُوره يستلُّ منها قوةً هي في جَذْر كل أَرزةٍ على قممه.
الأَرز ليس مجرَّد شعارٍ على عَلَم بل هو وديعةُ أَعمارٍ أَسداها لنا جدُودُنا المبارَكون جيلًا بعد جيل، فلا نُفرِّطَنَّ بقدسيَّتها، مثلما غالى البعض، على منصَّات تواصُلية سخيفة، فنشَرَ صورة علَم لبنان في قلبه صورةُ فيروز عوَض الأَرزة. لا. طبعًا لا. أَكيدًا لا. الأَرزةُ لا يحلُّ مكانها أَيُّ رمز. وفيروز رمزٌ في ذاتها ولا تحلُّ مكان رمزٍ آخر. هاتيك: أَرزةُ لبنان اللبناني، وهذه: فيروزُ لبنان الرحباني. فلا نستهينَنَّ بأَيٍّ منهما، ولْنخشَعْ أَمام عظمة لبنان التي ينهَض بها جناحان: أَرزُه وإِنسانُه.
بعد اليوم، إِخال كلَّ ضيفٍ كبيرٍ يزور لبنان سيتَّجه أَوَّلًا إِلى رموزه الخالدة قبل انصرافه إِلى أَماكنه الباردة.
بعد اليوم، أَيُّ زيارة رسمية فلْتبْدأْ أَوَّلًا لدى حنايا تُردِّد كلٌّ منها مع ابن سيراخ أَنها سَطَعَت “… وارتَفَعَت كالأَرز في لبنان”.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib